فصل: باب القول عَلَى أن لغة العرب لن تنتهي إلينا بكليتها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الصاحبي ***


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

الحمد لله وبه نستعين، وصلّى الله تعالى عَلَى محمد وآله‏.‏

قال الشيخُ أبو الحسينِ أحمدُ بنُ فارِسَ أدام الله تأييده‏:‏

هَذَا الكتاب ‏"‏الصاحبي‏"‏ فِي فقه اللغةِ العربيةِ وسننِ العربِ فِي كلامها‏.‏ وإنَّما عَنْوَنْتُه بهذا الاسم لأنّي لما أَلَّفْتُه أَوْدعْتُه خزانةَ الصَّاحبِ الجليل كافي الكفاة، عَمَرَ اللهُ عِراص العلم والأدب والخير والعدل بطول عمره، تَجمُّلًا بذلك وتحسُّنًا، إذ كَانَ يقبَلَه كافي الكفاة من علم وأدب مَرضِيًّا مقبولًا، وَمَا يَرْذُلُه أَوْ يَنفيه منفيًّا مَرْذولًا، ولأنّ أحسنَ مَا فِي كتابنا هَذَا مأخوذٌ عنه ومُفاد منه‏.‏

فأقول‏:‏ إِن لعلم العرب أصلًا وفرعًا‏:‏ أمَّا الفرعُ فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا‏:‏ ‏"‏رجل‏"‏ و ‏"‏فرس‏"‏ و ‏"‏طويل‏"‏ و ‏"‏قصير‏"‏‏.‏ وهذا هو الَّذِي يُبدأ بِهِ عند التعلُّم‏.‏

وأمَّا الأصلُ فالقولُ عَلَى موضوع اللغة وأوَّليتها ومنشأها، ثُمَّ عَلَى رسوم العرب فِي مخاطبتها، وَمَا لَهَا من الافْتِنان تحقيقًا ومجازًا‏.‏

والنّاسُ فِي ذَلِكَ رجلانِ‏:‏ رجلٌ شُغل بالفرع فلا يَعْرِف غيرَه، وآخَرُ جَمع الأمريْنِ معًا، وهذه هي الرُّتبة العليا، لأن بِهَا يُعلم خطابُ القرآن والسُّنة، وعليها يُعول أهلُ النَّظر والفُتيا، وذلك أن طالبَ العلم العُلويُ يكتفي من سماء ‏"‏الطويل‏"‏ باسم الطويل، ولا يَضِيرُه أن لا يعرف ‏"‏الأشَقَّ‏"‏ و ‏"‏الأَمقَّ‏"‏ وإن كَانَ فِي علم ذَلِكَ زيادةُ فَضل‏.‏

وإنَّما لَمْ يَضِره خفاءُ ذَلِكَ عَلَيْهِ لأنَّه لا يَكاد يجدُ منه فِي كتاب الله جل ثناؤه فيُحْوَج إِلَى علمه؛ ويقل مثله أيضًا فِي ألفاظ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم، إذ كَانَتْ ألفاظُه صلى الله عَلَيْهِ وسلم هي السّهلة العَذْبَة‏.‏

ولو أنه لَمْ يَعْلم توسُّع العرب فِي مخاطباتها لَعَيَّ بكثير من علم مُحْكَم الكتاب والسنَّة، ألا تسمع قول الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعون ربَّهم بالغَداةِ والعَشِيِّ يُريدون وجهَه‏}‏ إِلَى آخر الآية‏؟‏ فسِرُّ هَذِهِ الآية ي نَطْقها لا يكون بمعرفةٍ غريب اللغة والوَحْشيِّ من الكلام، وإنَّما معرفته بغير ذَلِكَ مما لعلَّ كتابنا هَذَا يأتي عَلَى أكثره بعون الله تعالى‏.‏

والفرق بَيْنَ معرفة الفروع ومعرفة الأصول أن مُتَوسِّمًا بالأدب لو سُئل عن ‏"‏الجَزْم‏"‏ و ‏"‏التَّسوِيد‏"‏ فِي علاج النوق، فتوقف أَوْ عيَّ بِهِ أَوْ لَمْ يعرفه، لَمْ ينقصه ذَلِكَ عند أهل المعرفة نقصًا شائنًا، لأن كلام العرب أكثر من أن يُحصى‏.‏

ولو قيل لَهُ‏:‏ هل تتكلم العربُ فِي النّفي بما لا تتكلم بِهِ فِي الإثبات، ثُمَّ لَمْ يعلمه لنَقْصه ذَلِكَ فِي شريعة الأدب عند أهل الأدب، لا أنَّ ذَلِكَ يُرْدد دينه أَوْ يَجُرُّه لمأثم‏.‏

كما أن مُتوسِّمًا للنَّحو لو سُئل عن قول القائل‏:‏

لَهِنّكِ من عبْسـية لـوسـيمة *** عَلَى هَنَوات كاذبٌ من يقولُها

فتوقَّف أَوْ فكَّر أَوْ استمْهل لكان أمرُهُ فِي ذَلِكَ عند أهل الفضل هَيِّنًا، لكن لو قيل لَهُ مكان ‏"‏لَهِنَّكِ‏"‏ مَا أصل القَسم، وكم حروفه، وَمَا الحروفُ الخمسة المشبَّهة بالأفعال الَّتِي يكون الاسم بعدها منصوبًا وخبرُهُ مرفوعًا‏؟‏ فلم يُجب لَحَكِم عَلَيْهِ بأنَّه لَمْ يُشامَّ صِناعةَ النحو فقط‏.‏

فهذا الفصلُ بَيْنَ الأمرين‏.‏

والذي جمعناه فِي مؤلَّفنا هَذَا مفرَّق فِي أصناف العلماء المتقدمين رضي الله عنهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء‏.‏ وإنَّما لَنَا فِيهِ اختصارُ مبسوط أَوْ بسطُ مختصرٍ أَوْ شرحُ مشْكلٍ أَوْ جمعُ متفرقٍ‏.‏

فأوَّل ذَلِكَ‏:‏

باب القول عَلَى لغة العرب أتوقيف أم اصطلاح‏؟‏

أقول‏:‏ إِن لغة العرب توقيف‏.‏ ودليل ذَلِكَ قوله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏وعلَّم أدمَ الأسماء كلَّها‏}‏ فكان ابن عبّاس يقول‏:‏ علّمه الأسماء كلّها وهي هَذِهِ الَّتِي يتعارَفُها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشباه ذَلِكَ من الأمم وغيرها‏.‏

وروى خُصَيْف عن مُجاهد قال‏:‏ علمه اسم كلّ شيء‏.‏

وقال غيرهما‏:‏ إنما علَّمه أسماء الملائكة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ علّمه ذرّيته أجمعين‏.‏

والذي نذهب إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا ذكرناه عن ابن عباس‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كما تذهب إِلَيْهِ لقال‏:‏ ‏"‏ثُمَّ عرضهن أَوْ عرضها‏"‏ فلما قال ‏{‏عرضهم‏}‏ عُلم أن ذَلِكَ لأعيان بني آدمَ أَوْ الملائكة، لأن موضوع الكناية فِي كلام العرب يُقال لما يَعقِل ‏{‏عرضهم‏}‏ ولما لا يعقل ‏"‏عرضها أَوْ عرضهن‏"‏ - قيل لَهُ‏:‏ إنما قال ذَلِكَ والله أعلم لأنه جَمع مَا يَعقل وَمَا لا يعقل فغلَّب مَا يعقل، وهي سنّة من سنن العرب، أعني باب التغليب‏.‏ وذلك كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏والله خَلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي عَلَى بطنه ومنهم مَن يمشي عَلَى رجليْن ومنهم مَنْ يمشي عَلَى أربع‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ تغليبًا لمن يمشي عَلَى رجلين وهم بنو آدم‏.‏

فإن قال‏:‏ أفتقولون فِي قولنا سيف وحُسام وعَضب إِلَى غير ذَلِكَ من أوصافه أنه توقيف حَتَّى لا يكون شيء منه مُصْطَلَحًا عَلَيْهِ‏؟‏ قيل لَهُ‏:‏ كذلك نقول‏:‏ ‏"‏والدليل عَلَى صِحَّة مَا نذهب إِلَيْهِ إجماعُ العلماء عَلَى احتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فِيهِ أَوْ يتفقون عَلَيْهِ، ثُمَّ احتجاجهم بأشعارهم، ولو كَانَتْ اللغة مُواضَعَةً واصطلاحًا لَمْ يكن أولئك فِي الاحتجاج بهم بأولى منا فِي الاحتجاج لَوْ اصطلحنا عَلَى لغة اليوم ولا فرق‏.‏

ولعلَّ ظانًا أن اللغة الَّتِي دلَلنا عَلَى أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وَفِي زمان واحد‏.‏ وَلَيْسَ الأمر كذلك، بل وقّف الله جلَّ وعزَّ آدمَ عليه السلام عَلَى مَا شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إِلَى علمه فِي زمانه، وانتشر من ذَلِكَ مَا شاء الله، ثُمَّ علَّم بعد آدم عليه السلام من عرَب الأنبياء صلوات الله عليهم نبيًا نبيًا مَا شاء أن يعلمه، حَتَّى انتهى الأمر إِلَى نبيّنا محمد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وآله وسلم، فآتاه الله جلَّ وعزَّ من ذَلِكَ مَا لَمْ يؤته أحدًا قبله، تمامًا عَلَى مَا أحسنَه من اللغة المتقدمة‏.‏ ثُمَّ قر الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت‏.‏

فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمِّل وجد من نُقَّاد العلم من ينفيه ويُرده‏.‏

ولقد بلغنا عن أبي الأسود أن أمرًا كلمه ببعض مَا أنكره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال‏:‏ ‏"‏هَذِهِ لغو لَمْ تبلغك‏"‏ فقال لَهُ‏:‏ ‏"‏يَا ابن أخي لا خير لَكَ فيما لَمْ يبلغني‏"‏ فعرَّفه بلطف أن الذي تكلم بِهِ مختلَق‏.‏

وخلَّةٌ أخرى أنه لَمْ يبلغنا أن قومًا من العرب فِي زمانٍ يُقارب زمانَه أجمعوا عَلَى تسمية شيء من الأشياء مصطلِحِين عَلَيْهِ، فكنا نَستدِل بذلك عَلَى اصطلاح كَانَ قبلهم‏.‏

وقد كَانَ فِي الصحابة رضي الله تعالى عنهم - وهم البُلغاء والفُصحاء - النظر فِي العلوم الشريفة مَا لا خفاء بِهِ‏.‏ وَمَا علِمناهم اصطلحوا عَلَى اختراع لغةٍ أَوْ إحداث لفظةٍ لَمْ تتقدمهم‏.‏

ومعلوم أن حوادث العالم لا تنقضي إِلاَّ بانقضائه ولا تزول إِلاَّ بزواله، وَفِي ذَلِكَ دليل عَلَى صِحة مَا ذهبنا إِلَيْهِ من هَذَا الباب‏.‏

باب القول عَلَى الخط العربي وأول من كتب بِهِ

يُروى أن أول من كتب الكتاب العربيَّ والسّريانيّ والكُتُب كلها آدم عليه السلام، قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها فِي طين وطبخه‏.‏ فلما أصاب الأرضَ والغَرقُ وجد كلُّ قوم كتابًا فكتبوه، فأصاب إسماعيلُ عليه السلام الكتابَ العربيّ‏.‏

وكان ابنُ عباس يقول‏:‏ أوّلُ من وضع الكتاب العربيّ إسماعِيلُ عليه السلام، وضعه عَلَى لفظه ومَنْطِقه‏.‏

والرواياتُ فِي هَذَا الباب تكثر وتختلف‏.‏

والذي نقوله فِيهِ‏:‏ إن الخطّ توقيف، وذلك لِظاهِر قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏اِقرأ باسمِ ربِّك الَّذِي خَلَق خَلَق الإنسانَ من عَلَق اِقرأ وربُّكَ الأكرم الَّذِي علّم بالقلم علّم الإنسان مَا لَمْ يعلم‏}‏ وقال جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏والقلم وَمَا يسطرون‏}‏ وإذا كَانَ كذا فليس ببعيد أن يوَقِّفَ آدمَ عليه السلام أن غيرَه من الأنبياء عليهم السلام عَلَى الكتاب‏.‏

فأما أن يكون مُخْتَرَع اخترعه من تِلْقاءِ نفسه فشيءٌ لا تَعْلم صِحته إِلاَّ من خبر صحيح‏.‏

وزعم قوم أن العرب العاربة لَمْ تعرف هَذِهِ الحروف بأسمائها، وأنهم لَمْ يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا رفعًا ولا نصبًا ولا همزًا‏.‏ قالوا والدليل عَلَى ذَلِكَ مَا حكاه بعضهم عن بعض الأعراب أنه قيل لَهُ‏:‏ أتهمز إسرائيل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إني إذن لَرَجُل سوء‏!‏‏"‏ قالوا‏:‏ وإنّما قال ذَلِكَ لأنه لَمْ يعرف من الهمز إِلاَّ الضغط والعصر‏.‏ وقيل لآخر أتجرُّ فلسطين‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إني إذن لقويٌّ‏!‏‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ وسُمع بعض فصحاء العرب يُنشد‏:‏

نحن بني عَلْقمةَ الأخيارا ***

فقيل لَهُ‏:‏ لم نصبت ‏"‏بني‏"‏‏؟‏ فقال‏:‏ مَا نصبته، وذلك أنه لَمْ يعرف من النّصب إِلاَّ إِسناد الشيء‏.‏ قالوا‏:‏ وحكى الأخفش عن أعرابي فصيح أنه سُئل أن يُنشد قصيدة عَلَى الدال فقال‏:‏ وَمَا الدال‏؟‏ وحكي أن أبا حيّة النُّميري سُئل أن يُنشد قصيدة عَلَى الكاف فقال‏:‏

كفى بالنَّأي من أسماء كافِ *** وَلَيْسَ لِسُقمها إِذ طال شافِ

قلنا‏:‏ والأمر فِي هَذَا بخلاف مَا ذهب إِلَيْهِ هؤلاء ومذهبنا فِيهِ التوقيف فنقول‏:‏ إن أسماء هَذِهِ الحروف داخلة فِي الأسماء الَّتِي أعلم الله جلَّ ثناؤه أنه علَّمها آدم عليه السلام، وَقَدْ قال جل وعزَّ‏:‏ ‏{‏علّمه البيان‏}‏، فهل يكون أوّلُ البيان إِلاَّ علم الحروف الَّتِي يقع بِهَا البيان‏؟‏ ولِمَ لا يكون الذي علَّم آدم عليه السلام الأسماء كلّها هو الَّذِي علّمه الألِفَ والباء والجيم والدال‏؟‏ فأما من حُكي عنه من الأعراب الَّذِين لَمْ يعرفوا الهمز والجرّ والكاف والدال فإنَّا لَمْ نزعم أن العرب كلها مدرًا ووبرًا قَدْ عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وَمَا العربُ فِي قديم الزمان إِلاَّ كنحن اليومَ‏:‏ فما كلٌّ يعرف الكتابة والخطّ والقراءة، وأبو حيّة كَانَ أمس؛ وَقَدْ كَانَ قبله بالزمن الأطول من يعرف الكتابة ويخطّ ويقرأ، وَكَانَ فِي أصحاب رسول الله صلى الله تعالى سلم كاتبون منهم أمير المؤمنين عليٌّ صلوات الله تعالى عَلَيْهِ وعثمان وزيد وغيرهم‏.‏

فحدثني أبو الحسن عليُّ بنُ إبراهيم القَطَّان قال أخبرنا عليّ بن عبد العزيز عن عن أبي عبيد قال‏:‏ حدثنا ابن مَهْدِيّ عن ابن المبارك قال حدثني أبو واثل شيخٌ من أهل اليمن عن هانئ قال‏:‏ كنت عند عثمان رضي الله تعالى عنه، وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتِف شاه إِلَى أبي بن كعب فِيهَا ‏{‏لَمْ يتسنَّ‏}‏ و ‏{‏فأمهل الكافرين‏}‏ و ‏{‏لا تبديل للخلق‏}‏ قال فدعا بالدّواة فمحا إحدى اللامين وكتب ‏"‏لخلق الله‏"‏ ومحا فأمهل وكتب ‏{‏فَمهِّل‏}‏ وكتب ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ ألحقَ فِيهَا هاءً‏.‏ أفيكون جهلُ أبي حيّة بالكتابة حُجةً عَلَى هؤلاء الأئمة‏؟‏‏.‏

والذي نقوله فِي الحروف هو قولنا فِي الإعراب والعروض‏.‏ والدليل عَلَى صِحة هَذَا وأن القوم قَدْ تداوَلوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحُطَيْئة الَّتِي أوّلها‏:‏

شاقَتْكَ أظعانٌ لِلَيلَى *** دون ناظرة بواكر

فَنَجِدُ قوافيها كلَّها عند الترنُّم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علمُ الحطيئة بذلك لأشبهَ أن يختلف إعرابُها، لأن تساويها فِي حركة واحدة اتفاقًا من غير قصد - لا يكاد يكون‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فقد تواترت الرّوايات بأن أبا الأسود أولُ من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم فِي العروض‏.‏ قيل لَهُ‏:‏ نحن لا ننكر ذَلِكَ، بل نقول إن هذين العِلْمَين قَدْ كانا قديمًا وأتت عليهما الأيام وقلاّ فِي أيدي الناس، ثُمَّ جددهما هذان الإمامان، وَقَدْ تقدم دليلنا فِي معنى الإعراب‏.‏

وأما العروض فمن الدليل عَلَى أنه كَانَ متعارفًا معلومًا اتفاقُ أهل العلم عَلَى أن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا أَوْ من قال منهم‏:‏ ‏"‏إنه شعر‏"‏ فقال الوليدُ بنُ المغيرة منكرًا عليهم ‏"‏لقد عرضتُ مَا يقرؤه محمد عَلَى أقراء الشعر، هزجه ورجزه وكذا وكذا، فلم أرَه يشبه شيئًا من ذلك‏"‏ أفيقول الوليدُ هَذَا، وهو لا يعرف بحور الشعر‏؟‏‏.‏

وَقَدْ زعم ناس أنّ علومًا كَانَتْ فِي القرون الأوائل والزمن المتقادم، أنها دَرسَت وجُدّدت منذ زمان قريب، وترجمت وأصلحت منقولة من لغة إِلَى لغة‏.‏ وليس مَا قالوا ببعيد، وإن كَانَتْ تِلْكَ العلوم بحمد الله وحسن توقيفه مرفوضة عندنا‏.‏

فإن قال‏:‏ فقد سمعناكم تقولون إن العرب فعلت كذا وَلَمْ تفعل كذا، مِن أنها لا تجمع بَيْنَ ساكنين، ولا تبتدئ بساكن، ولا تقف عَلَى متحرك، وأنها تسمي الشخص الواحد الأسماء الكثيرة، وتجمع الأشياء الكثيرة تَحْتَ الاسم الواحد، قلنا‏:‏ نحن نقول إن العرب تفعل كذا بعدما وطأناه أن ذَلِكَ توقيف حَتَّى ينتهي الأمر إِلَى الموقّف الأول‏.‏

ومن الدليل عَلَى عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية كتابتهم المصحف عَلَى الَّذِي يعلله النحويُّون فِي ذوات الواو والياء والهمز والمدّ والقصر فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو وَلَمْ يصوّروا الهمزة إذَا كَانَ مَا قبلها ساكنًا فِي مثل ‏"‏الخبء‏"‏ و ‏"‏الدفء‏"‏ و ‏"‏الملء‏"‏ فصار ذَلِكَ كلّه حجة، وحتى كَرِهَ من العلماء تركَ اتباع المصحف من كَرِهَ‏.‏

فحدثني عبد الرحمن بن حمدان عن محمد بن الجهم السّمرَّيّ عن الفرَّاء قال‏:‏ ‏"‏اتباعُ المصحف - إذَا وجدت لَهُ وجهًا من كلام العرب - وقراءةُ القراء أحبّ إليَّ من خلافه‏"‏ قال وَقَدْ كَانَ أبو عمرو بن العلاء يقرأ ‏{‏إن هذين لساحران‏}‏ ولست أجترئ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ وقرأ ‏{‏فأصَّدَّقَ وأكون‏}‏ فزاد واوًا فِي الكتاب وَلَمْ أستحبّ ذَلِكَ‏.‏

والذي قاله الفرّاء حَسَن، وَمَا يِحَسَن قول ابن قتيبة فِي أحرُف ذكرها، وَقَدْ خالف الكُتَّابُ المصحفُ فِي هَذَا‏.‏

باب القول فِي أن لغة العرب أفضلُ اللغات وأوسعُها

قال جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيلُ ربّ العالمين، نَزَل بِهِ الرُّوح المبينُ عَلَى قلبك، لِتكُون من المُنذِرين، بلسان عربيٍّ مبين‏}‏ فوصَفه جلّ ثناؤه بأبلغ مَا يوصَف بِهِ الكلام، وهو البيان‏.‏

قال جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏خَلَق الإنسان علَّمه البيان‏}‏ فقدّم جلّ ثناؤه ذكر البيان عَلَى جميع مَا توحَّد بخلقه وتفرَّد بإنشائه، من شمس وقمر ونجم وشجر وغيرِ ذَلِكَ من الخلائق المحْكمة والنشايا المُتْقَنة‏.‏ فلمّا خصَّ جلَّ ثناؤه اللسانَ العربيَّ بالبيانِ عُلم أن سائر اللغات قاصِرَةٌ عنه وواقعة دونه‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فقد يقع البيانُ بغير اللسان العربي، لأن كلَّ مَن أفْهَم بكلامه عَلَى شرط لغته فقد بَيَّن‏.‏ قيل لَهُ‏:‏ إِن كنتَ تريد أن المتكلّم بغير اللغة العربية قَدْ يُعرِبُ عن نفسه حَتَّى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان، لأن الأبكم قَدْ يدلُّ بإشارات وحركات لَهُ عَلَى أكثر مراده ثُمَّ لا يسمّى متكلمًا، فضلا عن أن يُسمَّى بَيِّنًا أَوْ بليغًا‏.‏ وإن أردت أنَّ سائر اللغات تبيّن إبانة اللغة العربية فهذا غَلط، لأنا لو احتجنا أن تعبِّر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذَلِكَ إِلاَّ باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرةً، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسمّاة بالأسماء المترادفة‏.‏ فأين هَذَا من ذاك، وأين لسائر اللغات من السَّعة مَا للغة العرب‏؟‏ هَذَا مَا لا خفاء بِهِ عَلَى ذي نُهيَة‏.‏

وَقَدْ قال بعضُ علمائنا حين ذكر مَا للعرب من الاستعارة والتمثيل والقلب والتقدير والتأخير وغيرها من سنن العرب فِي القرآن فقال‏:‏ ولذلك لا يقدر أحد من التراجم عَلَى أن ينقله إِلَى شيء من الألسنة كما نُقل الإنجيل عن السريانية إِلَى الحَبشية والرُّومية وترجمت التوراة والزَّبور وسائرُ كتب الله عزّ وجلّ بالعربية، لأن العجم لَمْ تتَّسع فِي المجاز اتساع العرب، ألا ترى أنك لو أردت أن تنقُل قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وإما تخافَنَّ مِن قوم خِيانةً فانْبذْ إليهم عَلَى سواء‏}‏ لَمْ تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ المؤدِّية عن المعنى الَّذِي أَوْدِعَتْه حَتَّى تبسُط مجموعها وتصِل مقطوعها وتُظهر مستورها فتقول‏:‏ ‏"‏إِن كَانَ بَيْنَك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضًا فأعلمهم أنّك قَدْ نقضت مَا شرطته لهم وآذِنْهم بالحرب لتكون أنت وهم فِي العلم بالنقض عَلَى استواء‏"‏ وكذلك قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فضربنا عَلَى آذانهم فِي الكهف‏}‏‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فهل يوجد فِي سنن العرب ونظومها مَا يجري هَذَا المجرى‏؟‏ قيل لَهُ‏:‏ إِن كلام الله جلّ ثناؤه أعلى وأرفع من أن يُضاهى أَوْ يُقابل أَوْ يعارض بِهِ كلام، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام العليّ الأعلى خالق كلّ لغة ولسان، لكنّ الشعراء قَدْ يؤمنون إيماءَ ويأتون بالكلام الَّذِي لو أراد مُريد نقْلُه لاعْتاص وَمَا أمكن إِلاَّ بمبسوطٍ من القول وكثير من اللفظ‏.‏ ولو أراد أن يعبّر عن قول امرئ القيس‏:‏

فدع عنك نَهْبًا صيح فِي حَجَراته

بالعربية فضلًا عن غيرها لطال عَلَيْهِ‏.‏ وكذا قول القائل‏:‏ ‏"‏والظنُّ عَلَى الكاذبِ‏"‏‏.‏

و ‏"‏نِجارُها نارُها‏"‏‏.‏

و ‏"‏عَيَّ بالأسْناف‏"‏‏.‏

و ‏"‏انْشأِي يُرمَ لكِ‏"‏‏.‏

و ‏"‏هو باقِعة‏"‏‏.‏

و ‏"‏قلبٌ لَو رَفع‏"‏‏.‏

و ‏"‏عَلَى يَد فاخْضَمْ‏"‏‏.‏

وشأنُك إِلاَّ تركُه مُتفاقم

وهو كثير بمثله طالت لغةُ العرب اللغات‏.‏ ولو أراد معبّرٌ بالأعجمية أن يعبر عن الغنيمة والإخفاق واليقين والشكّ والظاهر والباطن والحق والباطل والمبين والمشكل والاعتزاز والاستسلام لعيّ بِهِ‏.‏ والله جلّ ثناؤه أعلم حَيْثُ يجعل الفضل‏.‏

ومما اختُصت بِهِ لغةُ العرب - بعد الَّذِي تقدم ذِكرناهُ قلبهُم الحروف عن جهاتها، ليكون الثاني أخفَّ من الأول، نحو قولهم‏:‏ ‏"‏ميعاد‏"‏ وَلَمْ يقولوا ‏"‏مِوْعاد‏"‏ وهما من الوعد، إِلاَّ أن اللفظ الثاني أخفُّ‏.‏

ومن ذَلِكَ تركهم الجمعَ بَيْنَ السَّاكنَينِ، وَقَدْ تجتمع فِي لغة العجم ثلاث سواكن‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ ‏"‏يَا حارِ‏"‏ ميلًا إِلَى التخفيف‏.‏

ومن اختلاسهم الحركات فِي مثل‏:‏

فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحقِبٍ

ومنه الإدغامُ، وتخفيفُ الكلمة بالحذف، نحو‏:‏ ‏"‏لَمْ يَكُ‏"‏ و ‏"‏لَمْ أُبَلْ‏"‏ ومن ذَلِكَ إضمارهم الأفعال، نحو‏:‏ ‏"‏امرأ أتقى الله‏"‏ و أمرَ مُبكياتِكِ، لا أمرَ مضْحكاتِكِ‏"‏‏.‏

وممّا لا يمكن نقْله البتَّةَ أوصافُ السيف والأسد والرمح وغير ذَلِكَ من الأسماء المترادفة‏.‏ ومعلوم أن العَجَم لا تعرف للأسد غير اسم واحد، فأما نحن فنُخرج لَهُ خمسين ومائة اسم‏.‏

وحدثني أحمد بن محمد بن بندار قال‏:‏ سمعت أبا عبد الله بن خالَوَيْهِ الهمذاني‏"‏ يقول‏:‏ جمعت للأسد خمس مائة اسم وللحيَّة مائتين‏.‏

وأخبرني عليُّ بنُ أحمد بنِ الصبَّاح قال‏:‏ حدثنا أبو بكر بن دريد قال‏:‏ حدثنا ابن أخي الأصمعي عن عمه أن الرشيد سأله عن شعر ل ابن حزام العُكْلِيّ ففسره، فقال‏:‏ ‏"‏يَا أصمعي، إِن الغريب عندك لغَيْرُ غريب‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏يَا أمير المؤمنين، ألا أكون كذلك وَقَدْ حفظتُ للحَجَر سبعين اسمًا‏؟‏‏"‏‏.‏ وهذا كما قاله الأصمعي‏.‏ ولكافي الكفاة أدام الله أيامه وأبقى للمسلمين فضله - فِي ذَلِكَ كتاب مجرد‏.‏

فأين لسائر الأمم مَا للعرب‏؟‏ ومن ذا يمكنه أن يُعبّر عن قولهم‏:‏ ذات الزُّمَيْن، وكَثْرَة ذات اليد، ويد الدهر، وتخاوَصَت النجوم، ومَجَّت الشمسُ ريقها، ودَرأ الفيءَ، ومفاصل القول، وأتى بالأمر من فصِّه، وهو رَ حْب العَطَن، وغَمْرُ الرداء، ويخْلق، ويَفري، وهو ضيّق المَجَمّ، قلِق الوَضِين، رابط الجأش، وهو ألْوى، بعيد المُسْتَمَرّ، وهو شراب بِأنقع، وهو جُذَيْلُها المحكَّك وعُذَيقُها المُرَجَّب، وَمَا اشبه هَذَا من بارع كلامهم ومن الإيماء اللطيف والإشارة الدّالة‏.‏

وَمَا فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من الخطاب العالي أكثر وأكثر، قال الله جلّ وعزّ‏:‏ ‏{‏ولكم فِي القصاص حياة‏}‏ و ‏{‏يحسبون كلَّ صَيْحة عليهم‏}‏، و ‏{‏وأُخرى لن تَقْدروا عَلَيْهَا قَدْ أحاط الله بِهَا‏}‏ و ‏{‏إِن يتّبعون إِلاَّ الظَّنَّ وإن الظن لا يُغني من الحقّ شيئًا‏}‏ و ‏{‏إنما بَغيكم عَلَى أنفسكم‏}‏، ‏{‏ولا يُحيق المكر السّيّئ إِلاَّ بأهله‏}‏ وهو أكثر من أن نأتي عَلَيْهِ‏.‏

وللعرب بعد ذَلِكَ كَلِم تلوح فِي أثناء كلامهم كالمصابيح فِي الدُّجى، كقولهم للجَموع للخير‏:‏ قَثُوم، وهذا أمر قاتِم الأعماق، أسود النواحي، واقتحف الشرابَ كلّه، وَفِي هَذَا الأمر مصاعبُ وقُحَم، وامرأة حييّة قدِعة، وتَقَادَعوا تقادُعَ الفراش فِي النار، وَلَهُ قَدَم صِدق، وذا أمر أنت أردته ودبّرته، وتقاذَفَتْ بِنَا النَّوى، واشْتَفَّ الشراب، ولك قُرعة هَذَا الأمر خياره، وَمَا دخلت لفلان قريعة بيت، وهو يَبْهَر القرينة إِذَا جاذبته، وهم عَلَى قرو واحد أي طريقة، وهؤلاء قَرَابينُ الملك، وهو قشع إِذَا لَمْ يثبت عَلَى أمر، وقشبه بقبيح لطخه وصبي قصِع لا يكادُ يشبّ، وأقلت مَقاصِرُ الظلام، وقطَّع الفرسُ الخيلَ تقطيعًا إِذَا خلَّفها، وَلَيْسَ أقعَس لا يكاد يبرح، وهو منزول قفر‏.‏

وهذه كلمات من قرحة واحدة، فكيف إِذَا جال الطرف فِي سائر الحروف فجالَه‏؟‏ ولو تقصينا ذَلِكَ لجاوزنا الغرض ولما حوته أجلاد وأجلاد‏.‏

باب القول على أن لغة العرب هل يجوز أن يحاط بها‏؟‏

قال بعض الفقهاء‏:‏ ‏"‏كلام العرب لا يحيط بِهِ إِلاَّ نبيّ‏"‏‏.‏

وهذا كلامَ حَرِيٌّ أن يكون صحيحًا‏.‏ وَمَا بلغنا أنّ أحدًا ممن مضى ادعى حفْظ اللغة كلِها‏.‏ فأما الكتاب المنسوب إِلَى الخليل وَمَا فِي خاتمته من قوله‏:‏ ‏"‏هَذَا آخر كلام العرب‏"‏ فقد كَانَ الخليل أورع وأتقى لله جلّ ثناؤه من أن يقول ذَلِكَ‏.‏

ولقد سمعت عليَّ بن مِهْرُوَيْهِ يقول‏:‏ سمعت هرون بن هَزاري يقول‏:‏ سمعت سُفيان بن عُيْينة يقول‏:‏ ‏"‏من أحبّ أن ينظر إِلَى رجل خُلق من الذّهب والمِسك فلينظر إِلَى الخليل بن أحمد‏"‏‏.‏ وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذَلِكَ المَصاحِفِي عن النَّضر بن شُمَيْل قال‏:‏ ‏"‏كنا نُمَيِّل بَيْنَ ابن عون والخليل بن أحمد أيُّهما تقدّم فِي الزّهد والعبادة فلا ندري أيهما نقدم‏"‏ قال‏:‏ وسمعت النضر بن شميل يقول‏:‏ ‏"‏مَا رأيت أعلم بالسُّنة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد‏"‏ قال‏:‏ وسمعت النضر يقول‏:‏ ‏"‏أُكلت الدنيا بأدب الخليل وكتبه وهو فِي خُصّ لا يُشعَر بِهِ‏"‏‏.‏

قلنا فهذا مكان الخليل من الدين، أفتراه يُقدم عَلَى أن يقول‏:‏ ‏"‏هَذَا آخر كلام العرب‏؟‏‏"‏‏.‏

ثُمَّ أن فِي الكتاب الموسوم بِهِ من الإخلال مَا لا خفاء بِهِ عَلَى علماء اللغة، ومن نظر فِي سائر الأصناف الصحيحة علم صحة مَا قلناهُ‏.‏

باب القول فِي اختلاف لغات العرب

اختلاف لغات العرب من وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ الاختلاف فِي الحركات كقولنا‏:‏ ‏"‏نَستعين‏"‏ و ‏"‏نِستعين‏"‏ بفتح النون وكسرها‏.‏ قال الفرَّاء‏:‏ هي مفتوحة فِي لغة قريش، وأسدٌ وغيرهم يقولونها بكسر النون‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ الاختلاف فِي الحركة والسكون مثل قولهم‏:‏ ‏"‏معَكم‏"‏ و ‏"‏معْكم‏"‏ أنشد الفرّاء‏:‏

ومَنْ يتَّقْ فإنّ الله معْـهُ *** ورزق الله مُؤْتابٌ وغادِ

ووجه آخر‏:‏ وهو الاختلاف فِي إبدال الحروف نحو‏:‏ ‏"‏أولئك‏"‏ و ‏"‏أُولالِكَ‏"‏‏.‏ أنشد الفرّاء‏:‏

أُلا لِك قومي لَمْ يكونوا أُشابَةً *** وهل يعِظُّ الضِّلّيلَ إلا أُلالكا

ومنها قولهم‏:‏ ‏"‏أنّ زيدًا‏"‏ و ‏"‏عَنّ زيدًا‏"‏‏.‏

ومن ذَلِكَ‏:‏ الاختلاف فِي الهمز والتليين نحو‏:‏ ‏"‏مستهزؤن‏"‏ و ‏"‏مستهزُوْن‏"‏‏.‏

ومنه‏:‏ الاختلاف فِي التقديم والتأخير نحو‏:‏ ‏"‏صاعقة‏"‏ و ‏"‏صاقعة‏"‏‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي الحذف والإثبات نحو‏:‏ ‏"‏استحيَيْت‏"‏ و ‏"‏استحْيت‏"‏ و ‏"‏وصدَدْت‏"‏ و ‏"‏أَصْدَدْت‏"‏‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي الحرف الصحيح يبدلُ حرفًا معتلًا محو ‏"‏أما زيد‏"‏ و ‏"‏أَيْما زيد‏"‏‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي الإمالة والتفخيم فِي مثل ‏"‏قضى‏"‏ و ‏"‏رمى‏"‏ فبعضهم بفخّم وبعضهم يُميل‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي الحرف الساكن يستقبله مثله، فمنهم من يكسر الأول ومنهم من يضمّ، فيقولون‏:‏ ‏{‏اشتَرَوُ الضلالة‏}‏ و ‏{‏اشتَرَوِ الضلالة‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي التذكير والتأنيث فإن من العرب من يقول ‏"‏هَذِهِ البقر‏"‏ ومنهم من يقول ‏"‏هَذَا البقر‏"‏ و ‏"‏هَذَا النخيل‏"‏ و ‏"‏هَذَا النخيل‏"‏‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي الإدغام نحو‏:‏ ‏"‏مهتدون‏"‏ و ‏"‏مُهَدُّون‏"‏‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي الإعراب نحو‏:‏ ‏"‏مَا زيدٌ قائمًا‏"‏ و ‏"‏مَا زيدٌ قائم‏"‏ و ‏"‏إنّ هذين‏"‏ و ‏"‏إنّ هذان‏"‏ وهي بالألف لغة ل بني الحارث بن كعب يقولون لكلّ ياء ساكنة انفتح مَا قبلها ذَلِكَ‏.‏ وينشدون‏:‏

تزوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أذنـاه ضـربةً *** دَعَتْه إِلَى هابي التراب عقيمِ

وذهب بعض أهل العلم إِلَى أن الإعراب يقتضي أن يقال‏:‏ ‏{‏إِن هذان‏}‏ قال‏:‏ وذلك أن ‏"‏هَذَا‏"‏ اسم منهوك، ونُهْكهُ أنه عَلَى حرفين أحدهما حرف علة وهي الألف وها كلمة تنبيه ليست من الاسم فِي شيء، فلما ثُنّي احتيج إِلَى ألف التثنية، فلم يوصل إليها لسكون الألف الأصلية، واحتيج إِلَى حذف أحديهما فقالوا‏:‏ إِن حذَفنا الألف الأصلية بقي الاسم عَلَى حرف واحد، وإن أسقطنا ألِفَ التثنية كَانَ فِي النون منها عوض ودلالة عَلَى معنى التثنية، فحذفوا ألف التثنية‏.‏

فلما كَانَتْ الألف الباقية هي ألف الاسم، واحتاجوا إِلَى إعراب التثنية - لَمْ يغيروا الألف عن صورتها لأن الإعراب واختلافه فِي التثنية والجمع إنما يقع عَلَى الحرف الَّذِي هو علامة التثنية والجمع، فتركوها عَلَى حالها فِي النصب والخفض‏.‏

قال‏:‏ ومما يدلّ عَلَى هَذَا المذهب قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فذانك برهانان من ربّك‏}‏ لَمْ تحذف النون - وَقَدْ أضيف - لأنه لو حذفت النون لذهب معنى التثنية أصلًا، لأنه لَمْ تكن للتثنية ها هنا علامة إِلاَّ النون وحدها، فإذا حذفت أشبهت الواحد لذهاب علامة التثنية‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي صورة الجمع نحو ‏{‏أسرى‏}‏ و ‏{‏أُسارى‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي التحقيق والاختلاس محو ‏{‏يأمُرُكم‏}‏ و ‏{‏يأمُرْكم‏}‏ و ‏{‏عُفِيَ لَهُ‏}‏ و ‏{‏عُفْي لَهُ‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي الوقف عَلَى هاء التأنيث مثل ‏"‏هَذِهِ أُمَّهْ‏"‏ و ‏"‏هَذِهِ أمَّتْ‏"‏‏.‏

ومنها‏:‏ الاختلاف فِي الزّيادة نحو‏:‏ ‏"‏أَنْظُرُ‏"‏ و ‏"‏أَنظورُ‏"‏‏.‏ أنشد الفراء‏:‏

الله يعلم أَنَّـا فِـي تـلـفُّـتـنـا *** يوم الفراق إِلَى جيراننا صُـورُ

وأنَّني حَيْثُ مَا يَثْنِي الهوى بَصري *** من حَيْثُ مَا سلكوا أدنو فأنظورُ

وكلّ هَذِهِ اللغات مسماة منسوبة إِلَى أصحابها، لكن هَذَا موضع اختصار، وهي وإن كَانَتْ لقوم دون قوم فإنها لما انتشرت تَعاوَرَها كلٌّ‏.‏

ومن الاختلاف‏:‏ اختلاف التضادِّ، وذلك قول حِمْيَر للقائم ‏"‏ثبْ‏"‏ أي اقعد‏.‏

فحدثنا علي بن إبراهيم القطَّان عن المفسر عن القتيبي عن إبراهيم بن مسلم عن الزبير عن ظَمْياء بنت عبد العزيز بن مَوألة قالت‏:‏ حدثني أبي عن جدّي موألة أن عامر بن الطُّفيْل قدم عَلَى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فَوَثَّبَهُ وِسادة، يريد فرشه إياه وأجلسه عَلَيْهَا‏.‏

والوِثاب‏:‏ الفراش بلغة حِمْيَر‏.‏ قال‏:‏ وهم يسمّون الملك إِذَا كَانَ لا يغزو ‏"‏موثَبان‏"‏ يريدون أن يطيل الجلوس ولا يغزو، ويقولون للرجل ‏"‏ثب‏"‏ أي اجلس‏.‏

وروي أن زيد بن عبد الله بن دارِم وفد عَلَى بعض ملوك حِمْيَر فألْفاه فِي مُتَصَيَّد لَهُ عَلَى جبل مُشْرِف، فسلم عَلَيْهِ وانتسب له، فقال لَهُ الملك ‏"‏ثب‏"‏ أي اجلس، وظن الرجل أنه أمره بالوثوب من الجبل فقال‏:‏ ‏"‏لتجدني أَيُّها الملك مِطْواعًا‏"‏ ثُمَّ وثب من الجبل فهلك، فقال‏:‏ الملك‏:‏ مَا شأنه‏؟‏ فخبّروه قصته وغلطه فِي الكلمة، فقال‏:‏ ‏"‏أما أنه ليست عندنا عربيّت‏:‏ من دخل ظَفارِ حَمّر‏"‏ وظفار المدينة الَّتِي كَانَ بِهَا، وإليها ينسب الجَزْع الظفَّاري‏.‏ من دَخل ظفار فليتعلم الحميرية‏.‏

باب القول فِي أفصح العرب

أخبرني أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم بِقَزْوين، قال‏:‏ حدثنا أبو الحسين محمدُ بن عباس الخُشْنِكي، قال‏:‏ حدثنا إسماعيل بن أبي عُبَيد الله قال‏:‏ أجمَعَ علماؤنا بكلام العرب، والرُّواةُ لأشعارهم، والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومَحالّهم أن قُرَيشًا أفصحُ العرب ألْسنةً وأصْفاهم لغةً‏.‏ وذلك أن الله جل ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبيَّ الرحمة محمدًا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم‏.‏ فجعل قُريشًا قُطَّان حَرَمِه، وجيران بيته الحرام، ووُلاتَهُ‏.‏ فكانت وُفود العرب من حُجاجها وغيرهم يَفِدون إِلَى مكة للحج، ويتحاكمون إِلَى قريش فِي أُمورهم‏.‏ وَكَانَتْ قريش نعلّمهم مَناسكَهم وتحكُمُ بَيْنَهم‏.‏ ولن تزل العرب تَعرِف لقريش فضلها عليهم وتسمّيها أهل الله لأنهم الصَّريح من ولد إسماعيل عَلَيْهِ السلام، لَمْ تَشُبْهم شائبة، وَلَمْ تنقُلْهم عن مناسبهم ناقِلَة، فضيلةً من الله - جلّ ثناؤه - لهم وتشريفًا‏.‏ إذ جعلهم رَهط نبيّه الأذْنَيْنَ، وعِتْرته الصالحين‏.‏

وَكَانَتْ قريش، مع فصاحتها وحُسن لغاتها ورِقَّة ألسنتها، إِذَا أتتهُم الوُفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لغاتهم وأصفى كلامهم‏.‏ فاجتمع مَا تخيّروا من تِلْكَ اللغات إِلَى نَحائرهم وسَلائقهم الَّتِي طُبعوا عَلَيْهَا‏.‏ فصاروا بذلك أفصح العرب‏.‏

ألا ترى أنك لا تجد فِي كلامهم عَنْعَنَة تَميم ولا عَجْرفيّة قَيْس ولا كَشْكَشَة أسَد ولا كَسْكَسة رَبيعةَ ولا الكَسْر الَّذِي تسمَعه من أسدَ وقَيْس مثل‏:‏ ‏"‏تعلِمون‏"‏ و ‏"‏نِعلَم‏"‏ ومثل ‏"‏شعير‏"‏ و بِعير‏"‏‏؟‏‏.‏

باب اللغات المذمومة

أما العَنْعَنة الَّتِي تُذكِر عن تَميم - فقلبهم الهمزة فِي بعض كلامهم عينًا‏.‏ يقولون‏:‏ ‏"‏سمعتُ عَنَّ فلانًا قال كذا‏"‏ يريدون ‏"‏أَنَّ‏"‏‏.‏

ورُوي فِي حديث قَيْلَة‏:‏ ‏"‏تَحسب عَنِّي نائِمَةٌ‏"‏ قال أبو عُبيد‏:‏ أرادت تَحْسب أني، وهذه لُغة تميم‏.‏ قال ذو الرمّة‏:‏

أَعَنْ ترسَّمت من خَرقاء مَنْزِلةً *** ماءُ الصَّبابة من عَيْنيك مَسْجُومُ

أراد ‏"‏أأن‏"‏ فجعل مكان الهمزة عينًا‏.‏

وأما الكَشْكَشة الَّتِي فِي أسَد - فقال قوم‏:‏ إنهم يبدلون الكاف شينًا فيقولون‏:‏ ‏"‏عَلَيْشَ‏"‏ بمعني ‏"‏عَلَيْكَ‏"‏‏.‏ ويُنشدون‏:‏

فَعَيْناشِ عيْناها، جيدُشِ جيدُها *** ولَوْنُشِ إِلاَّ أنها غيرُ عاطلِ

وقال آخرون‏:‏ يَصِلون بالكاف شينًا، فيقولون‏:‏ ‏"‏عَلَيكِش‏"‏‏.‏

وكذلك الكسكَسة الَّتِي فِي رَبيعة - إنما هي أن يَصِلوا بالكاف سينًا، فيقولون‏:‏ ‏"‏عَلَيْكِسْ‏"‏‏.‏

وحدثني عليُّ بن أحمد الصبَّاحيُّ، قال سمعت ابن دُرَيْد يقول‏:‏ حروفٌ لا تتكلم بها العرب إِلاَّ ضرورة، فإذا اضطُرُّوا إِلَيْهَا حوَّلوها عند التكلم إِلَى أقرب الحروف من مخارجها‏.‏

فمن تِلْكَ الحروفِ الحرفُ الَّذِي بَيْنَ الباء والفاء‏.‏ مثل ‏"‏بور‏"‏ إِذَا اضطُروا‏.‏ فقالوا‏:‏ ‏"‏فُور‏"‏‏.‏

ومثلُ الحرف الَّذِي بَيْنَ القاف والكاف والجيم - وهي لغة سائرة فِي اليمن - مثل‏:‏ ‏"‏جَمَل‏"‏ إِذَا اضطرُّوا قالوا‏:‏ ‏"‏كَمَل‏"‏‏.‏

قال‏:‏ والحرفُ الَّذِي بَيْنَ الشين والجيم والياء‏:‏ فِي المذكر ‏"‏غُلامِجْ‏"‏ وَفِي المؤنث ‏"‏غُلامِش‏"‏‏.‏

فأما بنو تميم فإنهم يُلحقون القاف باللَّهاة حَتَّى تَغْلظ جدًا فيقولون‏:‏ ‏"‏القوم‏"‏ فيكون بَيْنَ الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوم قَدْ نضجت *** ولا أكولُ لباب الدَّار مَكْفـولُ

وكذلك الياء تجعل جيمًا فِي النَّسب‏.‏ يقولون‏:‏ ‏"‏غُلامِجْ‏"‏ أي ‏"‏غلامي‏"‏‏.‏

وكذلك الياء المشدَّدة تحوَّل جيمًا فِي النَّسب‏.‏ يقولون‏:‏ ‏"‏بَصرِجّ‏"‏ و ‏"‏كُوفِجّ‏"‏ قال الرَّاجِز‏:‏

خالي عُويفٌ، وأبو عَلِجّ ***

المُطْعِمَانِ اللحمَ بالعَشِجِّ ***

وبالغَداةَ فِلَقَ الْبـرْنِـجِّ ***

وكذلك مَا أشبهه من الحروف المرغوب عنها‏.‏ كالكاف الَّتِي تُحوَّل شينًا‏.‏

قلنا‏:‏ أما الَّذِي ذكره ابن دُرَيد فِي ‏"‏بور‏"‏ و ‏"‏فور‏"‏ فصحيح‏.‏ وذلك أن بور لَيْسَ من كلام العرب، فلذلك يحتاج العربيّ عند تعريبه إياه أن يُصيّره فاءً‏.‏ وأما سائر مَا ذكره فليس من باب الضرورة فِي شيء‏.‏ وأيُّ ضرورة بالقائل إِلَى أن يقلب الكاف شينًا، وهي ليست فِي سجع ولا فاصلة‏؟‏ ولكن هَذِهِ لغات للقوم عَلَى مَا ذكرناه فِي باب اختلاف اللغات‏.‏

وأما من زعم أن ولدَ إسماعيل عَلَيْهِ السلام يُعيّرون وَلدَ قَحْطان أنهم ليسوا عربًا، ويحتجُّون عليهم بأنَّ لسانَهم الحِمْيريَّة وأنهم يُسَمُّون اللِّحية بغير اسمها - مع قول الله جلّ ثناؤه فِي قصة من قال‏:‏ لا تأخذ بلِحْيتي ولا بِرَأْسي - وأنهم يُسمُّون الذّيب ‏"‏القِلوْبَ‏"‏ - مع قوله‏:‏ ‏{‏وأخاف أن يأكله الذّئب‏}‏ - ويسمون الأصابع ‏"‏الشنَّاتر‏"‏ - وَقَدْ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏يحعلون أصابعهم فِي آذانِهم‏}‏ - وأنهم يسمّون الصَّديق ‏"‏الخِلْمَ‏"‏ - والله جل ثناؤه يقول‏:‏ ‏{‏أَوْ صَديقِكم‏}‏ - وَمَا أشبه هَذَا‏.‏ فليس اختلافُ اللُّغات قادِحًا فِي الأنساب‏.‏

ونحن وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات، فلسنا نُنكر أن يكون لكلّ قوم لغة‏.‏ مع أن قحطان تذكر أنهم العرَب العارِبة، وأن مَن سواهم العرَب المَتَعَرِّبة، وأن إسماعيل عَلَيْهِ السلام بلسانهم نَطق، ومن لغتِهم أخَذَ، وإنَّما كَانَتْ لغةُ أبيه صلى الله عليه وسلم العِبرية وَلَيْسَ ذا موضوعَ مفاخَرة فنَستَقصي‏.‏

ومما يُفسد الكلام ويَعيبُه الخزْمُ ولا نريد بِهِ الخزْمَ المستعمل فِي الشعر، وإنما نريد قولَ القائل‏:‏

ولئنْ قومٌ أصابوا غِرَّةً *** وأصِبْنا من زمان رَقَقا

لَلَقَدْ كُنَّا لدى أزمانـنـا *** لِشَريجَيْنِ لباسٍ وتُقـى

فزاد لامًا عَلَى ‏"‏لقد‏"‏ وهو قبيح جدًا‏.‏

ويزعُم ناسٌ أن هَذَا تأكيد كقول الآخر‏:‏

فَلا والله لا يُلْفَى لِما بي *** ولا لِلِما بهم أبدًا دَوَاءٌ

فزاد لامًا عَلَى ‏"‏لِمَا‏"‏ وهذا أقبح من الول‏.‏ فأما التأكيد فإن هَذَا لا يزيد الكلام قُوة، بل يقبّحه‏.‏ ومثله قول الآخر‏:‏

وصالياتٍ كَكَما يؤثْفَيْن *** شوكل ذا من أغالِيطِ من يغلَط

والعرَب لا تعرِفهُ‏.‏

باب القول فِي اللغة الَّتِي بِهَا نزل القرآن

وأنه لَيْسَ فِي كتاب الله جلّ ثناؤه شيء بغير لغة العرب

حدَّنا أبو عليُّ بنُ إبراهيم القطَّان قال حدثنا عليُّ بن عبد العزيز عن أبي عُبيد عن شيخ لَهُ أنه سمع الكلبيّ يحدث عن أبي صالح عن ابن عباس قال‏:‏ نزل القرآن عَلَى سبعة أحرُف أَوْ قال بسبعِ لغات، منها خمسٌ بلغة العَجْزِ من هَوازن وهم الذين يقال لهم علُيا هَوازن وهي خمس قبائل أَوْ أربع، منها سَعدُ بن بكر وجُشَمُ بن بكر ونَصْر بن مُعاوية وثَقيف‏.‏

قال أبو عُبيد‏:‏ وأحسب أفصَحَ هؤلاء بني سعد بن بكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا أفصَح العَرَب مَيْد أني من قريش وأني نشأت فِي بني سعد بن بكر» وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العَلاء‏:‏ أفصح العرب عُليا هَوازِن وسُفْلى تميم‏.‏

وعن عبد الله بن مسعود أنه كَانَ يَستَحبُّ أن يكون الذين يكتبون المَصاحف من مُضر‏.‏

وقال عمر‏:‏ لا يُمْلِيَنَّ فِي مَصاحِفِنا إِلاَّ غلمان قريش وثَقيف‏.‏

وقال عثمان‏:‏ اجعلوا المُمليَ من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ فهذا مَا جاءَ فِي لغات مُضر وَقَدْ جاءت لغاتٌ لأهل اليَمن فِي القرآن معروفةٌ‏.‏ منها قوله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئين فِيهَا عَلَى الأرائك‏}‏ فحدّثنا أبو الحسن علي عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال حدثنا هُشَيْم أخبرنا منصور عن الحسن قال‏:‏ ‏{‏كُنا‏}‏ يقال إنها بالحبشية‏.‏ وقوله ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ يقال إنها بالحوْرانيَّة‏.‏ قال‏:‏ فهذا قول أهل العلم من الفُقهاء‏.‏

قال‏:‏ وزعم أهل العَربية أن القرآن لَيْسَ فِيهِ من كلام العجَم شيء وأنه كلَّه بلسانٍ عربيّ، يتأوَّلون قوله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏إنا جعلناه قرآنًا عربيًا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بلسان عربيّ مبين‏}‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ والصواب من ذَلِكَ عندي - والله اعلم - مذهب فِيهِ تصديق القوْلين جميعًا‏.‏ وذلك أنَّ هَذِهِ الحروف وأصولها عجمية - كما قال الفقهاء - إِلاَّ أنها سقَطَت إِلَى العرب فأعرَبَتها بألسنَتها، وحوَّلتها عن ألفاظ العجم إِلَى ألفاظها فصارت عربيَّة‏.‏ ثُمَّ نزل القرآن وَقَدْ اختَلَطت هَذِهِ الحروف بكلام العَرَب‏.‏ فمن قال إنها عَرَبية فهو صادق، ومن قال عجمية فهو صادق‏.‏

قال‏:‏ وإنما فسَّرنا هَذَا لئلا يُقدِمَ أحد عَلَى الفقهاء فَيَنْسَبهم إِلَى الجهل، ويتوهَّم عليهم أنهم أقدموا عَلَى كتاب الله جَلَّ ثناؤه بغير مَا أرداهُ الله جلَّ وعزَّ، وهم كانوا أعلمَ بالتأويل وأشدَّ تعظيمًا للقرآن‏.‏

قال أحمد بن فارس‏:‏ لَيْسَ كل من خالف قائلًا فِي مقالته فقد نَسَبه إِلَى الجهل‏.‏ وذلك أن الصدر الأول اختلفوا فِي تأويل آي من القرآن فخالف بعضهم بعضًا‏.‏ ثُمَّ خَلَفَ من بعدهم خلف، فأخذ بعضهم بقولٍ وأخذ بعض بقول، حسب اجتهادهم وَمَا دلَّتهم الدَّلالة عَلَيْهِ‏.‏ فالقول إذن مَا قاله أبو عبيد، وإن كَانَ قوم من الأوائل قَدْ ذهبوا إِلَى غيره‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فما تأويل قول أبي عبيد، فقد أعظم وأكبر‏؟‏ قيل لَهُ‏:‏ تأويله أنه أتي بأمر عظيم وكبير‏.‏ وذلك أن القرآن لَوْ كَانَ فِيهِ من غير لغة العرب شيء، لتوهَّم متوهْمِ أن العرب إنما عَجَزت عن الإتيان بمثله لأنه أتي بلغات لا يعرفونها، وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ‏.‏

وإذا كَانَ كذا فلا وجه لقول من يجيز قراءة القرآن فِي صلاته بالفارسية لأن الفارسية ترجمة غير مُعْجِزة‏.‏ وإنَّما أمر الله جلّ ثناؤه بقراءة القرآن العربي المعجز‏.‏ ولو جازت القراءة بالترجمة الفارسية لكانت كتُب التفسير والمصنّفات فِي معاني القرآن باللَّفظ العربيّ أولى بجواز الصَّلاة بِهَا، وهذا لا يقوله أحد‏.‏

باب القول فِي مأخذ اللغة

تؤخذ اللغة اعتيادًا كالصبي العربيّ يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم عَلَى مَرّ من الأوقات‏.‏

وتؤخذ تلقُّنًا من ملقّن‏.‏

وتؤخذ سماعًا من الرُّواة الثقات ذوي الصدق والأمانة، ويُتَّقى المظنون‏.‏

فحدثنا عليُّ بن إبراهيم عن المَعْدَانيّ عن أبيه عن معروف بن حسان عن اللَّيْث عن الخليل قال‏:‏ إن النَّحارير رُبَّما أدخلوا عَلَى الناس مَا لَيْسَ من كلام العرب إرادة اللَّبْس والتَّعْنِيت‏.‏

قلنا فَليَتَحرّ آخذ اللغة وغيرها من العلوم أهل الأمانة والثقة والصدق والعدالة‏.‏ فقد بلغنا من أمر بعض مشيخة بغداد مَا بلغنا‏.‏ واللهَ جل ثناؤه نستهدي التوفيق، وإليه نرغب فِي إرشادنا لسُبُل الصدق، إنه خير موفق ومعين‏.‏

باب القول فِي الاحتجاج باللغة العربية

لغةُ العرب يحتج بِهَا فيما اختلفُ فيه، إِذَا كَانَ ‏"‏التنازع في اسم أو صفة أو شيء ومما تستعمله العرب من سننها في حقيقة ومجاز، أو ما أشبه ذلك مما يجيء في كتابنا هذا إن شاءَ الله‏.‏

فأما الذي سبيله سبيل الاستنباء، أو ما فيه لدلائل العقل مجال - فإن العرب وغيرهم فيه سواء؛ للآن سائلا لو سأل عن دلالة من دلائل التوحيد أو حجة في أصل فقه أو فرعه - لم يكن الاحتجاج فيه بشيء من لغة العرب، إذ كان موضوع ذلك على غير اللغات‏.‏

فأما الذي يختلف فيه الفقهاء - من قوله جل وعز‏:‏ ‏{‏أو لامستُم النِساء‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قُروء‏}‏ وقوله جل وعز‏:‏ ‏{‏ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثم يعودون لما قالوا‏}‏ - فمنه ما يصلح الاحتجاج فيه بلغة العرب، ومنه ما يوكل إلى غير ذلك‏.‏

باب القول في حاجة أهل الفقه والفتيا إلى معرفة اللغة العربية

أقول‏:‏ إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لاغناء بأحد منهم عنه‏.‏ وذلك أن القرآن نازلٌ بلغة العرب، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، عربي‏.‏ فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جل وعز، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب - لم يجر من العلم باللغة بُدّا‏.‏

ولسنا نقول‏:‏ إن الذي يلزمه من ذلك الإحاطة بكل ما قالته العرب؛ لأن ذلك غير مقدور عليه، ولا يكون إلا لنبي، كما قلناه أولًا‏.‏ بل الواجب علم أصول اللغة والسنن التي بأكثرها نزل القرآن وجاءت السنة‏.‏ فأما أن يكلف القارئ أو الفقيه أو المحدث معرفة أوصاف الإبل وأسماء السباع ونعوت الأسلحة، وما قالته العرب في الفلوات والفيافي، وما جاء عنهم من شواذ الأبنية وغرائب التصريف - فلا‏.‏

ولقر غلط أبو بكر بن داود أبا عبد الله محمد بن إديس الشافعي، في كلمات ذكر أنه أخطأ فيها طريق اللغة‏.‏ وليس يبعر أن يغلء في مثلها مثله في فصاحته‏.‏ لكن الصواب على ما قاله أصوب‏.‏

فأما الكلمات فمنها‏:‏ إيجابه ترتيب أعضاء الوضوء في الوضوء، مع إجماع العربية أن الواو تقتضي الجمع المطل لا التوالي‏.‏

ومنها‏:‏ قوله في التزويج‏:‏ إذا قال الولي‏:‏ زوجتك فلانة، فقال المزوج‏:‏ قد قبلتها -‏:‏ إن ذلك ليس بنكاح حتى يقول‏:‏ قد تزوجتها أو قبلت تزويجها‏.‏ قال‏:‏ ةمعلوم أن الكلام إذا خرج جوابًا فقد فهم أنه جواب عن سؤال، قال الله جل وعز‏:‏ ‏{‏فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا قالوا‏:‏ نعم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ألست بربكم قالو بلى‏}‏ فاكتفى من المحبين بهذا، وما كلفوا أن يقولوا‏:‏ بلى أنت ربنا‏.‏

قال‏:‏ ومنها تسمية البكر التي لا توطأ حائلا‏.‏ وابن داود يقول‏:‏ إنما تسمى حائلا إذا كانت حاملًا مرة، أو توقع منها حمل فحالت‏.‏

ومنها قوله في الطائفة‏:‏ إنها تكون ثلاثة وأكثر‏.‏ وقد قال مجاهد‏:‏ الطائفة تقع على الواحد‏.‏

ومنها قوله في قول الله جل وعز‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى ألا تعولوا‏}‏ أي لا يكثر من تعولون‏.‏ والعرب تقول في كثرة العيال‏:‏ أعال الرجل فهو معيل‏.‏

ومنها قوله في القروء‏:‏ إنها الأطهار‏.‏ فإن القرء من قولهم‏:‏ يقرى الماء في حوضه‏.‏ قال والعرب تقول‏:‏ لا تطأ جاريتك حتى تقريها‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دعى الصلاة» أيامَ أقْرائِكَ‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ ومن العظيم أنَّ عليًا وعمرَ رضي الله عنهما قَدْ قالا ‏"‏القُرْؤُ الحَيضُ‏"‏ فهل يُجْتَرا عَلَى تجهيلهما باللغة‏؟‏ ومنها قوله فِي قوله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال‏}‏ أنه أرادَ الذكور دون الإناث‏.‏ قال‏:‏ وهذا من غريب مَا يَغلَط فِيهِ مثله‏.‏ يقول الله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏يَا بني آدم‏}‏ أفَتُراه أراد الرِّجالَ دون النساء‏؟‏ قال ابن داود‏:‏ وإنَّ قبيحًا مُفْرِط القَبَاحة بمن يعيب مالك لن أنسٍ بأنه لَحَنَ فِي مخاطَبَةِ العامَّة بأن قال‏:‏ ‏"‏مُطرنا البارحة مطرًا أيَّ مطرًا‏"‏ أن يرضَى هو لنفسه أن يتكلم بمثل هَذَا‏.‏ لأن النَّاس لَمْ يزالوا يلحنون ويَتَلاحَنُون فيما يخاطب بعضُهم بعضًا اتِّقَاءً للخروج عن عادة العامة فلا يَعيبُ ذَلِكَ من يُنْصِفِهم من الخاصة، وإنّما العيب عَلَى من غلِط من جهة اللغة فيما يغير بِهِ حكَم الشريعة والله المستعان‏.‏

فلذلك قلنا‏:‏ إنّ علم اللغة كالواجب عَلَى أهل العلم، لئلاَّ يحيدوا فِي تألبفهم أَوْ فتياهم عن سَنن الاستواء‏.‏

وكذلك الحاجة إِلَى علم العربية، فإن الإعراب هو الفارق بَيْنَ المعاني‏.‏ ألا ترى أن القائل إِذَا قال‏:‏ ‏"‏مَا أحسن زيد‏"‏ لَمْ يفرّق بَيْنَ التعجب والاستفهام والذمّ إِلاَّ بالأعراب‏.‏ وكذلك إِذَا قال‏:‏ ‏"‏رب أخوك أخانا‏"‏ و ‏"‏وَجْهُك وجهُ حُرّ‏"‏ و ‏"‏وجهُك وجهٌ حرٌّ‏"‏ وَمَا أشْبَه ذَلِكَ من الكلام المشْتَبه‏.‏

هَذَا وَقَدْ روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أعْرِبوا القرآن»‏.‏

وَقَدْ كَانَ الناس قديمًا يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أَوْ يقرأونه اجتنابَهم بعضَ الذنوب‏.‏ فأما الآن فقد تجوزا حَتَّى أن المحدّث يحدث فليحن‏.‏ والفقيه يؤلف فيلحن‏.‏ فإذا نُبها قالا‏:‏ مَا ندري مَا الإعراب وإنم انحن محدّثون وفقهاء‏.‏ فهما يسران بما يُساء بِهِ اللبيب‏.‏

ولقد كلمت بعض من يذهبُ بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العُليا فِي القياس، فقلت لَهُ‏:‏ مَا حقيقة القياس ومعناه، ومن أي شيء هو‏؟‏ فقال‏:‏ لَيْسَ عليَّ هَذَا وإنما علي إقامة الدَّليل عَلَى صحته‏.‏

فقل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو‏.‏ ونعوذ بالله من سوء الاختيار‏.‏

باب القول على لغة العرب

هل لها قياس وهل يشتق بعض الكلام من بعض‏؟‏

أجمع أهل اللغة إلا من شذ عنهم أن لغة العرب قياسًا وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض إقامة الدليل عَلَى صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري مَا هو‏.‏ ونعوذ بالله من سوء الاختيار‏.‏

وأن اسم الجنّ مشتق من الاجتنان‏.‏ وأن الجيم والنون تدُلاَّن أبدًا عَلَى الستر‏.‏ تقول العرب للدّرع‏:‏ جُنَّة‏.‏ وأجَنة الليلُ‏.‏ وهذا جنين، أي هو فِي بطن أمّه أَوْ مقبور‏.‏

وأن الإنس من الظهور‏.‏ يقولون‏:‏ آنَسْت الشيء‏:‏ أبصرته‏.‏

وَعَلَى هَذَا سائرُ كلام العَرَب، عَلم ذَلِكَ من عَلِم وجَهِلَه من جهل‏.‏

قلنا‏:‏ وهذا أيضًا مبنيٌ عَلَى مَا تقدم من قولنا فِي التوقيف‏.‏ فإن الَّذِي وقّفنا عَلَى أن الاجتنان التستر هو الَّذِي وقّفنا عَلَى أن الجنّ مشتق منه‏.‏ وَلَيْسَ لَنَا اليوم أن تخترع ولا أن نقول غير مَا قالوه ولا أن نقيس قياسًا لَمْ يقيسوه، لأن فِي ذَلِكَ فسادَ اللغة وبُطلان حقائقها‏.‏ ونكنةُ الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نَقيسهُ الآن نحن‏.‏

باب القول عَلَى أن لغة العرب لن تنتهي إلينا بكليتها

وأن الَّذِي جاءنا عن العرب قليل من كثير وأن كثيرًا من الكلام ذهب بذهاب أهله

ذهب علماؤنا أَوْ أكثرهم إِلَى أنّ الَّذِي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلّ‏.‏ ولو جاءنا جميعُ ا قالوه لجاءنا شعرٌ كثيرٌ وكلام كثير‏.‏

وأحر بهذا القول أن يكون صحيحًا‏.‏ لأنّا نرى علماء اللغة يختلفون فِي كثير مما قالته العرب، فلا يكاد واحد منهم يُخبّر عن حقيقة مَا خولف فيه، بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان‏.‏

ألا ترى أنَّا نسألهم عن حقيقة قول العرب فِي الإغراء ‏"‏كَذَبك كذا‏"‏ وعما جاء فِي الحديث من قوله‏:‏ ‏"‏كَذَبَ عليكم الحَجُّ‏"‏ و ‏"‏كَذَبَك العَسَلُ‏"‏ وعن قول القائل‏:‏

كذبتُ عليكم أَوْعِدُوني وعَـلِّـلُـوا *** بيَ الأرضَ والأقوامَ قِرْدانَ مَوْظَبَا

وعن قول الآخر‏:‏

كَذَبَ العَتِيقُ وماءُ شَنٍّ بـاردٌ *** إِن كنت سائلتي غَبُوقًا فاذهبِ

ونحن نعلم أن قوله‏:‏ ‏"‏كذب‏"‏ يَبْعُدُ ظاهره عن باب الإغراء‏.‏

وكذلك قولهم ‏"‏عنْكَ فِي الأرض‏"‏ و ‏"‏عنك شيئًا‏"‏ وقول الأفْوه‏:‏

عنكُم فِي الأرض إنَّا مَذْحِجٌ *** ورُويدًا يفضح الليلَ النهارُ

ومن ذَلِكَ قولهم‏:‏ ‏"‏أعَمَدُ من سيّد قتله قومُه‏؟‏‏"‏ أي ‏"‏هل زاد‏؟‏‏"‏ فهذا من مشكل الكلام الَّذِي لَمْ يفسر بعدُ‏.‏ قال ابن ميَّادة‏:‏

وأعمَدُ من قوم كفاهم أخوهـم *** صدامَ الأعادي حينَ فُلَّتْ نيوبُها

قال الخليل وغيره‏:‏ ‏"‏معناهُ هل زدنا علة أن كفينا‏؟‏‏.‏ وقال أبو ذْؤَيب‏:‏

صَخِبُ الشوارِب لا يزالُ كأنه *** عبدٌ لآل أبي ربيعة مُسْـبَـعُ

فقوله‏:‏ ‏"‏مسْبَعٌ‏"‏ مَا فُسّرَ حَتَّى الآن تفسيرًا شافيًا‏.‏

ومن قول الأعشي‏:‏

ذاتُ غَرْب تَرمي المُقدَّم بالرَّدْ *** ف إِذَا مَا تتـابـع الأرواق

وقوله فِي هَذِهِ القصيدة‏:‏

المِهِنينَ مَا لَهُ فِي زمان ال *** جدب حَتَّى إِذَا أفاق أفاقوا

ومن هَذَا الباب قولهم ‏"‏يَا عيد مَالَكَ‏"‏ و ‏"‏يَا هَيء مَالَكَ‏"‏ و ‏"‏يَا شَيْء مَالَكَ‏"‏‏.‏

وَلَمْ يفسّر قولهم ‏"‏صَهُ‏"‏ و ‏"‏وَيْهَكَ‏"‏ و ‏"‏إنيْه‏"‏ ولا قول القائل‏:‏

بِخَاء بكَ الحَقْ يَهْتِفُونَ وحَيّ هَل *** ويقولون ‏"‏خائِبكُما‏"‏ و ‏"‏خايبكُم‏"‏

فأمَّا الزَّجرُ والدّعاء الَّذِي لا يُفْهم موضوعُه - فكثير‏.‏ كقولهم‏:‏ ‏"‏حيِّ هَلاَ‏"‏ و ‏"‏بِعَيْنٍ مَا أرَيَنَّك‏"‏ - فِي موضِع أعْجَل‏.‏ و ‏"‏هَج‏"‏ و ‏"‏هَجَا‏"‏ و ‏"‏دَعْ‏"‏ و ‏"‏دَعا‏"‏ و ‏"‏لَعًا‏"‏ يدعون لَهُ‏.‏ وينشدون‏:‏

ومَطيَّة حَمَّلتُ ظَهْرَ مَطـيَّةٍ *** حَرَجٍ تُنَمَّى مِلْ عِثارِ بِدَعدَع

ويروى عن النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تقولوا‏:‏ دَعْدَعْ ولا لَعْلَعْ، ولكن قولوا‏:‏ اللهم ارْفَعْ وانْفَعْ‏"‏‏.‏ فلولا أن للكلمتين معنى مفهومًا عند القوم مَا كَرِههُما النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم‏.‏

وكقولهم فِي الزّجر ‏"‏أخِّرْ‏"‏ و ‏"‏أخِّري‏"‏ و ‏"‏ها‏"‏ و ‏"‏هَلا‏"‏ و ‏"‏هابِ‏"‏ و ‏"‏ارْحَبِي‏"‏ و ‏"‏عَدِّ‏"‏ و ‏"‏عاجِ‏"‏ و ‏"‏ياعاط‏"‏ و ‏"‏يعاطِ‏"‏ وينشدون‏:‏

وَمَا كَانَ عَلَى الجيْءِ *** ولا الهيءِ امتداحيكا

وكذلك ‏"‏إِجْدِ‏"‏ و ‏"‏أجْدِمْ‏"‏ و ‏"‏حِدِّجْ‏"‏ لا نعلم أحدًا فسَّر هَذَا‏.‏ وهو باب يَكثُرُ ويُصَحّحُ مَا قلناه‏.‏

ومن المُشتَبِه الَّذِي لا يقال فِيهِ اليومَ إِلاَّ بالتقريب والاحتمال وَمَا هو بغريب اللفظ لكَنَّ الوقوف عَلَى كُهنِهِ مُعتاصٌ - قولنا‏:‏ ‏"‏الحِينُ‏"‏ والزمان والدَّهرُ‏"‏ و ‏"‏الأوان‏"‏ - إِذَا قال القائل أَوْ حلَف الحالف‏:‏ ‏"‏والله لا كلمته حينًا ولا كلمته زمانًا أَوْ دهرًا‏"‏‏.‏

وكذلك قولنا‏:‏ ‏{‏بِضْعَ سِنين‏}‏ مُشتَبِه‏.‏ وأكثر هَذَا مُشكل لا يُقْصَر بشيء منه عَلَى حدّ معلوم‏.‏

ومن الباب قولهم فِي الغِنى والفَقْر وَفِي الشريف والكَريم واللئيم، إِذَا قال‏:‏ ‏"‏هَذَا لأغنياء أهلي‏"‏ أَوْ ‏"‏فقرائهم‏"‏ أَوْ ‏"‏أشرافهم‏"‏ أَوْ ‏"‏كرامهم‏"‏ أَوْ ‏"‏لئامهم‏"‏‏.‏ وكذلك أن قال‏:‏ ‏"‏امْنعُوه سفهاء قومي‏"‏ لَمْ يمكن تحديد السَّفه‏.‏

ولقد شاهدتُ منذ زمانٍ قريب قاضيًا يريد حَجْرًا عَلَى رجل مكْتَهِل‏.‏ فقلت‏:‏ ‏"‏مَا السبب فِي حجره عليه‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏يَزْعم أنه يَتَصيَّدَ بالكلاب وأنه سفيه‏"‏ فقرئ عَلَى القاضي قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَّمتم من الجوارح مكَلِّبين تعلّمونهنَّ مما علّمكم الله فكلوا مِمّا أمسكْنَ عليكم‏}‏ فأمسكَ القاضي عن الحجر عَلَى الكَهْلِ‏.‏

وكذلك إِذَا قال‏:‏ ‏"‏مَا لي لِذَوي الحسب‏"‏ أَوْ ‏"‏امنعوه السَّفِلَة‏"‏ وَمَا أشبه هَذَا مما يطول الباب بذكره فلا وَجْهَ فِي شيء من هَذَا غير التقريب والاحتمال، وَعَلَى اجتهاد الموصى إِلَيْهِ أَوْ الحاكم فِيهِ‏.‏ وإلا فإنَّ تحديدَه حَتَّى لا يجوز غيره بعيدٌ‏.‏

وَقَدْ كَانَ لذلك كله ناس يعرفونه‏.‏ وكذلك يعلمون معنى مَا نستغربه اليوم نحن من قولنا‏:‏ ‏"‏عُبْسُور‏"‏ فِي الناقة‏:‏ ‏"‏وعَيْسَجور‏"‏ و ‏"‏امرأة ضِنانِّي‏"‏ و ‏"‏فرس أشَقُّ أمقُّ خِبَقٌ‏"‏ ذهب هَذَا كله بذهاب أهله وَلَمْ يبق عندنا إِلاَّ الرسم الَّذِي تراه‏.‏

وعلماء هَذِهِ الشريعة، وإن كانوا اقتصروا من علم هَذَا عَلَى معرفة رَسْمه دون علم حقائقه؛ فقد اعتاضوا عنه دقيقَ الكلام فِي أصول الدين وفروعه من الفقه والفارئض‏.‏ ومن دقيق النحو وجليله‏.‏ ومن علم العروض الَّذِي يربي بحسنه ودقته واستقامته عَلَى كل مَا يبجح بِهِ الناسبون أنفسهم إِلَى الَّتِي يقال لَهَا‏:‏ الفلسفة‏.‏ ولكل زمان علم، وأشرف العلوم علم زماننا هَذَا والحمد لله‏.‏

باب انتهاء الخلاف فِي اللغات

تقع فِي الكلمة الواحدة لُغتان‏.‏ كقولهم‏:‏ ‏"‏الصِّرام‏"‏ و ‏"‏الصَّرام‏"‏‏.‏ و ‏"‏الحِصاد‏"‏ و ‏"‏الحصاد‏"‏‏.‏

وتقع فِي الكلمات ثلاث لُغات‏.‏ نحو‏:‏ ‏"‏الزُّجاج‏"‏ و ‏"‏الزِّجاج‏"‏ و ‏"‏الزَّجاج‏"‏ و ‏"‏وَشْكانَ ذا‏"‏ و ‏"‏وُشْكانَ ذا‏"‏ و ‏"‏وِشْكان ذا‏"‏‏.‏

وتقع فِي الكلمة أربع لُغات‏.‏ نحو‏:‏ ‏"‏الصِّداق‏"‏ و ‏"‏الصَّداق‏"‏ و ‏"‏الصَّدُقة‏"‏ و ‏"‏الصُّدْقة‏"‏‏.‏

وتكون منها خمس لُغات‏.‏ نحو‏:‏ ‏"‏الشَّمال‏"‏ والشَّمِل‏"‏ و ‏"‏الشَّمَل‏"‏ و ‏"‏الشَّأْمَل‏"‏ و ‏"‏الشَّمْل‏"‏‏.‏

وتكون فِيهَا ست لُغات‏:‏ ‏"‏قُسْطاس‏"‏ و ‏"‏قِسْطاس‏"‏ و ‏"‏قُصْطاس‏"‏ و ‏"‏قُسْتاس‏"‏ و ‏"‏قُسَّاط‏"‏ و ‏"‏قِسَّاط‏"‏‏.‏

ولا يكون أكثر من هَذَا‏.‏

والكلام بعد ذَلِكَ أربعة أبواب‏:‏ الباب الأول‏:‏ المجمع عَلَيْهِ الَّذِي لا علة فيه، وهو الأكثر والأعم‏.‏ مثل‏:‏ الحمد والشكر، لا اختلاف فِيهِ فِي بناء ولا حركة‏.‏

والباب الثاني‏:‏ مَا فِيهِ لغتان وأكثَر إِلاَّ أن إحدى اللُّغات أفصح‏.‏ نحو‏:‏ ‏"‏بَغْداذ‏"‏ و ‏"‏بَغْدادَ‏"‏ و ‏"‏بَغْدانَ‏"‏ هي كلّها صحيحة، إِلاَّ أن ‏"‏بَغْدادَ‏"‏ فِي كلام العرب أصحّ وأفصح‏.‏

والثالث‏:‏ مَا فِيهِ لُغتان أَوْ ثلاث أَوْ أكثر، وهي متساوية، ك ‏"‏الحَصاد‏"‏ و ‏"‏الحِصَاد‏"‏‏.‏ و ‏"‏الصَّداق‏"‏، فأيَّا مَا قال القائل‏:‏ فصحيح فصيح‏.‏

والباب الرابع‏:‏ مَا فِيهِ لغة واحدة، إِلاَّ أن المُوَلَّدينَ غَيَّروا فصارت ألسنتهم بالخطأِ جاريةً‏.‏ نحو قولهم‏:‏ ‏"‏أصْرَف الله عنك كذا‏"‏ و ‏"‏إنْجاص‏"‏ و ‏"‏إِمرأة مُطاعةٌ‏"‏ و ‏"‏عِرْق النِّسا‏"‏ بمسر النون، وَمَا أشبه ذا‏.‏

وَعَلَى هَذِهِ الأبواب الثلاثة بنى أبو العباس ثعلب‏"‏ كتابه المسمّى فصيح الكلام أخبرنا بِهِ أبو الحسن القَطَّان عنه‏.‏

باب مراتب الكلام فِي وُضوحه وإشكاله

أما واضح الكلام - فالذي يفهمه كلّ سامع عرَف ظاهرَ كلام العرب‏.‏ كقول القائل‏:‏ شربت ماءً ولَقيت زيدًا‏.‏

وكما جاء فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من قوله‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عليكم المَيْتَةُ والدمُ ولحمُ الخِنْزير‏}‏ وكقول النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم‏:‏ «إِذَا اسْتَيْقَظَ أحدُكم من نومه، فلا يَغْمِسْ يدَه فِي الإِناء حَتَّى يَغْسِلَها ثلاثًا»‏.‏ وكقول الشاعر‏:‏

إن يحسدوني فإنـي غـير لائِمِـهـم *** قبلي من الناس أهلُ الفَضل قَدْ حُسِدُوا

وهذا أكثر الكلام وأعمُّه‏.‏

وأما المشكل، فالذي يأتيه الإشكال من غَرابة لفظه، أَوْ أن تكون فِيهِ إشارة إِلَى خبر لَمْ يذكره قائلهُ عَلَى جهته، أَوْ أن يكون الكلام فِي شيء غير محدود، أَوْ يكون وَجيزًا فِي نفسه غير مَبْسوط، أَوْ تكون ألفاظه مُشتركةً‏.‏

فأما المُشكلِ لغرابة لفظه - فقول القائل‏:‏ ‏"‏يَمْلَخُ فِي الباطل ملخًا يَنْقُضُ مِذْرَوَيه‏"‏ وكما أنه قيل‏:‏ ‏"‏أيُدْالكُ الرجل المَرْأَة‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، إِذَا كَانَ مُلْفَجًا‏"‏ ومنه فِي كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏فلا تَعْضُلوهن‏}‏، ‏{‏ومِن الناس من يعبُد الله عَلَى حَرف‏}‏، ‏{‏وسَيِّدًا وحَصُورًا‏}‏، ‏{‏ويُبْرئُ الأكْمَهَ‏}‏ وغيرُهُ مما صَنَّف علماؤنا فِيهِ كتَبَ غريب القرآن‏.‏ ومنه فِي حديث النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم‏:‏ «عَلَى التِّيعَةِ شاة والتِّيمة لصاحبها»‏.‏ وَفِي السُّيُوبِ الخُمُس لا خِلاطَ ولا وِراطَ ولا شِناقَ ولا شِغارَ‏.‏ من أجْبى فقد أرْلى‏"‏ وهذا كتابُه إِلَى الأقيال العَبَاهِلة‏.‏ ومنه فِي شعر العرب‏:‏

وقـاتِـم الأَعْــمَـــاق ***

شَأزٍ بِـمَـــنْ عَـــوَّه ***

مَضْبُورَةٍ قَرْواءَ هرْجَابٍ فُنُق ***

زفي أمثال العرب‏:‏ ‏"‏باقِعَةٌ‏"‏ و ‏"‏شرَاب بأَنْقُع‏"‏ و ‏"‏ومُخْرَنْبِقٌ لِيَنْباع‏"‏‏.‏

والذي أشكل لإيماء قائله إِلَى خبر لَمْ يُفصح بِهِ - فقول القائل‏:‏ ‏"‏لَمْ أفِرَّ يومَ عَيْنَيْنِ‏"‏ و ‏"‏رُويدًا سَوْقَكَ بالقوارير‏"‏ وقول امرئِ القيس‏:‏

دع عنك نهبًا صِيح فِي حَجَراته ***

وقول الآخر‏:‏

إِن العصا قُرِعَت لِذِي الحِلْمِ ***

وَفِي كتاب الله جلّ ثناؤه مَا لا يعلم معناه إِلاَّ بمعرفة قصته، قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏قل مَن كَانَ عَدُوًّا لجِبْريل فإنّه نَزَّله عَلَى قلبك بإذن الله‏}‏ وفي أمثال العرب‏:‏ ‏"‏عَسَى الغُوَيْر أبْؤُسًا‏"‏‏.‏

والذي يشكل لأنه لا يُحَدُّ فِي نفس الخطاب - فكقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏أقيموا الصلاة‏}‏ فهذا مجمّل غير مفصل حَتَّى فَسَّره النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم‏:‏ ‏{‏والذي أشكل لوجَازة لفظه قولهم‏:‏ الغَمَراتِ ثُمَّ يَنْجَلِينَا والذي يأتيه الإشكال لاشتراك اللفظ - قول القائل‏:‏

وضَعوا اللُّجَّ عَلَى قَفيَّ ***

وَعَلَى هَذَا الترتيب يكون الكلام كلُّه فِي الكتاب والسُّنة وأشعار العرب وسائر الكلام‏.‏

باب ذكر مَا اختصت بِهِ العرب

من العلوم الجليلة الَّتِي خصت بِهَا العرب - الإعرابُ الَّذِي هو الفارق بَيْنَ المعاني المتكافِئَة فِي اللفظ، وبه يعرف الخبر الَّذِي هو أصل الكلام، ولولاه مَا مُيّز فاعل من مفعول، ولا مضاف من مَنْعوت، ولا تَعَجُّبٌ من استفهام، ولا صَدْر من مصدَر، ولا نعتٌ من تأكيد‏.‏

وذكر بعض أصحابنا أن الإعراب يختص بالأخبار، وَقَدْ يكون الإعراب فِي غير الخبر أيضًا‏.‏ لأنّا نقول‏:‏ ‏"‏أزيدٌ عندك‏؟‏‏"‏ و ‏"‏أزيدًا ضربت‏؟‏‏"‏ فقد عَمِل الإعراب وَلَيْسَ هو من باب الخبر‏.‏

ورغم ناس يُتَوقفُ عن قبول أخبارهم أن الذين يُسمَّون لفَلاسِفة قَدْ كَانَ لهم إعرابٌ ومؤلَّفاتُ نحوٍ‏.‏ قال أحمد بن فارس‏:‏ وهذا كلام لا يَعَرَّجُ عَلَى مثله‏.‏ وإنما تَشَبّهَ القوم آنفًا بأهل الإسلام، فأخذوا من كتب علمائنا، وغَيَّروا بعض ألفاظها، ونسبوا ذَلِكَ إِلَى قوم ذَوي أسماء منكرةٍ بتراجمَ بَشِعَةٍ لا يكاد لسان ذي دين ينطق بِهَا‏.‏

وادَّعوا مع ذَلِكَ أن للقوم شعرًا، وَقَدْ قرأناه فوجدناه قليل الماءِ، نَزْرَ الحَلاوة، غير مستقيم الوزن‏.‏

بلى، الشِّعر شِعر العرب، ديوانُهم وحافظ مآثِرهم، ومُقيّدُ أحسابهم، ثُمَّ للعرب العَروض الَّتِي هي ميزان الشِّعر، وبها يُعرف صحيحه من سقيمه‏.‏

ومن عرف دقائقه وأسراره وخفاياه علم أنه يُربي عَلَى جميع مَا يبَجَحُ بِهِ هؤلاء الَّذِين يَنْتَحلون معرفة حقائق الأشياء من الأعداد والخطوط والنقط الَّتِي لا أعرف لَهَا فائدة غير أنها مع قلة فائدتها تُرِقّ الدّين، وتنتج كل مَا نعوذ بالله منه‏.‏

وللعرب حفظ الأنساب وَمَا يُعلم أحدٌ من الأمم عُني بحفظ النسب عناية العرب‏.‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّها الناس إنّا خَلَقناكم من ذكر وأُنْثى وجعلناكم شعوبًا وقبائلِ لِتَعارفوا‏}‏ فهي آية مَا عَمِل بمضمونها غيرُهم‏.‏

ومما خصَّ الله جلَّ ثناؤه بِهِ العَرب طهارتُهم ونَزاهَتُهم عن الأدناس الَّتِي استباحها غيرهم من مخالَطَةِ ذوات المحارِم‏.‏ وهي منقبة تَعْلو بِجَمالها كلَّ مأثرةٍ والحمد لله‏.‏

باب الأسباب الإسلامية

كَانَتْ العربُ فِي جاهليتها عَلَى إرثٍ من إرث آبائهم فِي لُغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقَرابينهم‏.‏ فلما جاءَ الله جلّ ثناؤه بالإسلام حالت أحوالٌ، ونُسِخَت دِيانات، وأبطلت أمورٌ، ونُقِلت من اللغة ألفاظ من مواضعَ إِلَى مواضع أخَر بزيادات زيدت، وشرائع شُرعت، وشرائط شُرطت‏.‏ فَعفَّى الآخرُ الأوّلَ، وشُغِل القوم - بعد المُغاوَرات والتّجارات وتَطَلُّب الأرباح والكدْح للمعاش فِي رحلة الشتاء والصَّيف، وبعد الأغرام بالصَّيْد والمُعاقرة والمياسرة - بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بَيْنَ يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد، وبالتَّفقُّه فِي دين الله عزّ وجلّ، وحفظ سنن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلّم، مع اجتهادهم فِي مجاهدة أعداء الإسلام‏.‏

فصار الَّذِي نشأ عَلَيْهِ آباؤهم ونشأوا عَلَيْهِ كَأَن لَمْ يكن وحتى تكلَّموا فِي دقائق الفقه وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة وتأويل الوحي بما دُوّن وحُفِظ حَتَّى الآن‏.‏

فصاروا - بعدما ذكرناه - إِلَى أن يُسأل إمامٌ من الأئمة وهو يخطب عَلَى منبره عن فريضة فَيُفْتي ويَحْسُبُ بثلاث كلمات‏.‏ وذلك قول أمير المؤمنين عليّ صلوات الله عَلَيْهِ حين سُئل عن ابنتين وأبوين وامرأة‏:‏ ‏"‏صار ثُمْنُها تُسعًا‏"‏ فسميت‏:‏ المنبريَّة‏.‏

وإلى أن يقول هو صلوات الله عَلَيْهِ علي منبره والمهاجرون والأنصار متوافرون‏:‏ ‏"‏سلوني، فوالله مَا من آية إِلاَّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم فِي سهل أم فِي جبل‏"‏ وحتى قال صلوات الله عَلَيْهِ وأشار إِلَى ابنيه‏:‏ ‏"‏يَا قوم، استنبطوا منّي ومن هذين علمَ مَا مضى وَمَا يكون‏"‏‏.‏ وإلى ان يتكلم هو وغيره فِي دقائق العلوم بالمشهور من مسائلهم فِي الفرض وحده، كالمشتركة، ومسألة المباهلة والغَرَّاء، وأُمّ الفَرُّوخ، وأُمّ الأرامل، ومسألة الامتحان، ومسألة ابن مسعود، والأكدريّة، ومختصرة زيد، والخرقاء، وغيرها ممّا هو أغْمَضُ وأدقُّ‏.‏

فسبحان من نقل أولئك فِي الزمن القريب بتوقيفه، عمّا ألفوه ونشأوا عَلَيْهِ وغذوا بِهِ، إلى مثل هَذَا الَّذِي ذكرناه‏.‏ وكلّ ذَلِكَ دليل عَلَى حقّ الإيمان وصحة نُبوة نبيّنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم‏.‏

فكان مما جاء فِي الإسلام - ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق‏.‏ وأنَّ العرب إنَّما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق‏.‏ ثُمَّ زادت الشريعة شرائطَ وأوصافًا بِهَا سُمِيَ المؤمن بالإطلاق مؤمنًا‏.‏ وكذلك الإسلام والمسلم، إنّما عَرَفت منه إسلامَ الشيء ثُمَّ جاء فِي الشَّرع من أوصافه مَا جاء‏.‏ وكذلك كَانَتْ لا تعرف من الكُفر إِلاَّ الغِطاء والسِّتْر‏.‏ فأما المنافق فاسمٌ جاء بِهِ الإسلام لقوم أَبْطنوا غير مَا أظهروه، وَكَانَ الأصل من نافقاء اليَرْبوع‏.‏ وَلَمْ يعرفوا فِي الفِسْق إِلاَّ قولهم‏:‏ ‏"‏فَسَقَتِ الرُّطبة‏"‏ إذَا خرجت من قِشرها، وجاء الشرع بأن الفِسق الأفحاش فِي الخروج عن طاعة الله جلّ ثناؤه‏.‏

ومما جاء فِي الشرع الصلاة وأصله فِي لغتهم‏:‏ الدُّعاء‏.‏

وَقَدْ كانوا عَرفوا الركوعَ والسجودَ، وإن لَمْ يكن عَلَى هَذِهِ الهيئة، فقالوا‏:‏

أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيّةٍ غَوَّاصُهـا *** بَهِج متى يَرَها يُهِلَّ ويَسْجُدِ

وقال الأعشى‏:‏

يُراوِحُ من صلوات الملـيك *** طَوْرًا سجودًا وطورًا جُؤارًا

والذي عرفوه منه أيضًا مَا أخبرنا بِهِ عليٌّ عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال‏:‏ قال أَبو عمروٍ‏:‏ ‏"‏اسْجدَ الرجلُ‏:‏ طأطأ وانْحَنَى‏"‏ قال حُمَيدُ بن ثور‏:‏

فضول أزمَّتها أسْجَـدَت *** سجودَ النصارى لأربابها

وأنشد‏:‏

فقلن لَهُ أسْجِدْ لِلَيْلَى فأسجَدا ***

يعني البعير إذَا طأطأ رأسه لتِرْكَبَهُ‏.‏

وهذا وإن كَانَ فإن العرب لَمْ تعرِفه بمثل مَا أتَت بِهِ الشريعة من الأعداد والمَواقيت والتَّحريم للصلاة، والتَّحليل منها‏.‏

وكذلك القيام أصله عندهم الإمساكُ ويقول شاعرهم‏:‏

خَيلٌ صِيامٌ وأُخرى غير صائمة *** تَحْتَ العَجاج وخيلٌ تعلُكُ اللُّجُما

ثم زادت الشريعة النِّية، وحَظَرَت الأكلَ والمُباشَرَة وغير ذَلِكَ من شرائع الصوم‏.‏

وكذلك الحَجُّ، لَمْ يكن عندهم فِيهِ غير القصد، وسَبْر الجِراح‏.‏ من ذَلِكَ قولهم‏:‏

وأَشْهَدُ من عوفٍ حلُولًا كثـيرةً *** يَحجُّون سِبَّ الزِّبرِقان المُزْعْفَرا

ثم زادت الشريعة مَا زادته من شرائط الحج وشعائره‏.‏

وكذلك الزِّكاة، لَمْ تكن العرب تعرفها إِلاَّ من ناحية النَّماءِ، وزاد الشرع مَا زاده فِيهَا مما لا وجه لإطالة الباب بذكره‏.‏

وَعَلَى هَذَا سائر مَا تركنا ذِكرَه من العُمْرة والجهاد وسائر أبواب الفِقه‏.‏

فالوجه فِي هَذَا إذَا سُئل الإنسان عنه أن يقول‏:‏ فِي الصلاة اسمان لُغويٌّ وشرعيٌّ، ويذكر مَا كانت العرب تعرفه، ثُمَّ مَا جاءَ الإسلام بِهِ‏.‏ وهو قياسُ مَا تركنا ذكرَه من سائر العلوم، كالنحو والعَروض والشِّعر‏:‏ كل ذَلِكَ لَهُ اسمان لُغوي وصِناعيٌّ‏.‏

باب القول فِي حقيقة الكلام

زعم قوم أن ‏"‏الكلام مَا سُمع وفُهم‏"‏ وذلك قولنا‏:‏ ‏"‏قام زيد‏"‏ و ‏"‏ذهب عَمْرو‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ ‏"‏الكلام حروف مُؤلَّفة دالة عَلَى معنى‏"‏‏.‏

والقولان عندنا مُتقاربان، لأن المسموع المفهوم لا يكاد يكون إِلاَّ بحروف مؤلَّفة تدل عَلَى معنى‏.‏

وقال لي بعض فقهاء بغداد‏:‏ إن الكلام عَلَى ضربين مهمَل ومستعمَل‏.‏ قال‏:‏ فالمهمل‏:‏ ‏"‏هو الَّذِي لَمْ يوضع للفائدة‏"‏ والمستعمل‏:‏ ‏"‏مَا وضع ليفيد‏"‏ فأعلمته أن هَذَا كلام غيرُ صحيح، وذلك أن المهمَل عَلَى ضربين‏:‏ ضربٌ لا يجوز ائتلاف حروفه فِي كلام العرب بَتَّةً، وذلك كجيم تؤلَّف مع كاف أَوْ كاف تقدَّم عَلَى جيم، وكعين مع غين، أَوْ حاء مع هاء أَوْ غين، فهذا وَمَا أشبه لا يأتلف‏.‏

والضرب الآخر مَا يجوز تألُّف حروفه لكن العرب لَمْ تَقُل عَلَيْهِ، وذلك كإرادة مريد أن يقول‏:‏ ‏"‏عضخ‏"‏ فهذا يجوز تألُّفه وَلَيْسَ بالنافر، ألا تراهم قَدْ قالوا فِي الأحرف الثلاثة‏:‏ ‏"‏خضع‏"‏ لكن العرب لَمْ تقل عضخ، فهذان ضربا المهمل‏.‏

وله ضرب ثالث وهو أن يريد مريد أن يتكلم بكلمة عَلَى خمسة أحرف لَيْسَ فِيهَا من حروف الذَّلَقِ أَوْ الأطباق حرف‏.‏

وأي هَذِهِ الثلاثة كَانَ فإنه لا يجوز أن يسمى‏:‏ ‏"‏كلامًا‏"‏ لما ذكرناه من أنه وإن كَانَ مسموعًا مؤلفًا فهو غير مفيد‏.‏ وأهل اللغة لَمْ يذكروا المهمل فِي أقسام الكلام وإنما ذكروه فِي الأبنية المهملة الَّتِي لَمْ تَقل عَلَيْهَا العرب‏.‏

فقد صح مَا قلناه من خطأِ من زعم أن المهمل كلام‏.‏

باب أقسام الكلام

أجمع أهل العلم أن الكلام ثلاثة‏:‏ اسم وفعل وحرف‏.‏

فأما الاسم فقال سيبويه‏:‏ ‏"‏الاسم نحو رجل وفرس‏"‏ وهذا عندنا تمثيل، وَمَا أراد سيبويهِ بِهِ التحديد، إِلاَّ أن ناسًا حَكوْا عنه أن ‏"‏الاسم هو المحدِّث عنه‏"‏ وهذا شبيه بالقول الأول لأن ‏"‏كيْفَ‏"‏ اسم ولا يجوز أن يحدِّث عنه‏.‏

وسمعت أبا عيد الله بن محمد بن داود الفقيهَ يقول سمعت‏:‏ أبا العباس محمد بن يزيد المُبَرِّدَ يقول‏:‏ مذهب سيبويه أن ‏"‏الاسم مَا صَلَحَ أن يكون فاعلًا‏"‏ قال‏:‏ وذلك أن سيبويه قال‏:‏ ‏"‏ألا ترى أنك لَوْ قلت إن يضرب يأتينا وأشباهَ ذَلِكَ لَمْ يكن كلامًا، كما تقول إن ضاربك يأتينا‏"‏ قال‏:‏ فدل هَذَا عَلَى أن الاسم عنده مَا صَلَحَ لَهُ الفعل‏.‏

قال‏:‏ وعارضه بعضُ أصحابه فِي هَذَا بأن ‏"‏كيْفَ‏"‏ و ‏"‏عندَ‏"‏ و ‏"‏حَيْثُ‏"‏ و ‏"‏أَيْنَ‏"‏ أسماء وهي لا تصلح أن تكون فاعلة‏.‏ والدليل عَلَى أن أَيْنَ وكيف أسماء قول سيبويه‏:‏ ‏"‏الفتح فِي الأسماء قولهم كيْفَ وأين‏"‏ فهذا قول سيبويه والبحث عنه‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ ‏"‏الاسم مَا وُصِفَ‏"‏ وهذا أيضًا مُعَارض بما قلناه من كيْفَ وأين أنهما اسمان ولا يُنعتان‏.‏

وَكَانَ الفرّاء يقول‏:‏ ‏"‏الاسم مَا احتمل التنوين أَوْ الإضافة أَوْ الألف واللام‏"‏ وهذا القول أيضًا مُعارَض بالذي ذكرناه أَوْ نذكره من الأسماء الَّتِي لا تنوَّن ولا تضاف ولا يُضاف إليها ولا يدخلها الألف واللام‏.‏

وكان الأخفش يقول‏:‏ ‏"‏إذَا وجدت شيئًا يحسُنُ لَهُ الفعل والصفة نحو زيد قام وزيد قائم ثُمَّ وجدته يثنى ويُجمع نحو قولك‏:‏ الزيدان والزيدون ثُمَّ وجدته يمتنع من التصريف فاعلم أنه اسم‏"‏‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ مَا حَسُن فِيهِ ‏"‏يَنْفعني‏"‏ و ‏"‏يَضُرُّني‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ مَا دخل عَلَيْهِ حرف من حروف الخفض‏.‏ وهذا قول هشام وغيره‏.‏ وله قول آخر‏:‏ ان الاسم مَا نودي‏.‏ وكلّ ذَلِكَ مُعارَض بما ذكرناه من كيْفَ وأين ومن قولنا‏:‏ ‏"‏إذَا‏"‏ وإذا اسم لحِينٍ‏.‏ فحدثني علي بن إبراهيم القطان قال‏:‏ سمعت أبا العباس محمد بن يزيد المبرّد يقول حدّثني أبو عثمان المازني قال‏:‏ سألت الأخفش عن ‏"‏إذَا‏"‏‏.‏ مَا الدليل عَلَى أنها اسم لحين‏؟‏ فلم يأتِ بشيء‏.‏ قال‏:‏ وسُئِلَ الجَرْمِيُّ فَشَغَّبَ‏.‏ وسُئِلَ الرّياشيُّ فَجَوَّد وقال‏:‏ الدليل عَلَى أنها اسم للحين أنه يكون ضميرًا، ألا ترى أنك تقول‏:‏ ‏"‏القتال إذَا يقوم زيد‏"‏ كما تقول‏"‏ ‏"‏القتال يوم يقوم زيد‏"‏‏؟‏ وَقَدْ أومأ الفراء فِي معنى ‏"‏إذَا‏"‏ إِلَى هَذَا المعنى‏.‏

وعاد القول بنا إِلَى تحديد الاسم‏.‏ فقال المبرِّد فِي كتاب المُقْتَضَب‏:‏ كل مَا دخل حرف من حروف الجر فهو اسم فإن امتنع من ذَلِكَ فليس باسم‏.‏ وهذا معارض أيضًا بكيف وإذا وهما اسمان لا يدخل عليهما شيء من حروف الجرّ‏.‏

وسمعت أبا بكر محمد بن أحمد البصير وأبا محمد سَلْمَ بن الحسن يقولان‏:‏ سُئِل الزَّجاج عن حد الاسم فقال‏:‏ صوت مُقَطَّع مفهوم دالٌ عَلَى معنى غيرُ دال عَلَى زمان ولا مكان‏.‏ وهذا القول معارض بالحرف وذلك أنا نقول ‏"‏هل‏"‏ و ‏"‏بل‏"‏ وهو صوت مُقَطَّع مفهوم دالٌّ عَلَى معنى غيرُ دال عَلَى زمان ولا مكان‏.‏

وقل من قال‏:‏ ‏"‏الاسم مَا صَلَح أم ينادى‏"‏ خطأ أيضًا لأَن كيْفَ اسم وأين وإذا، ولا يَصْلُحُ أن يقع عَلَيْهَا نداء‏.‏

قال أحمد بن فارس‏:‏ هَذِهِ مقالات القوم فِي حدّ الاسم يُعارضها مَا قَدْ ذكرته‏.‏ وَمَا أعلم شيئًا مما ذكرته سلم من معارضة‏.‏ والله اعلم أيُّ ذَلِكَ أصحّ‏.‏ وذُكر لي عن بعض أهل العربية أن ‏"‏الاسم مَا كَانَ مُسْتَقِرًّا عَلَى المسمّى وقت ذكرك إيَّاه ولازمًا لَهُ‏"‏ وهذا قريب‏.‏

باب الفعل

قال الكِسَائِيُّ‏:‏ ‏"‏الفعل مَا دَلَّ عَلَى زمان‏"‏‏.‏

وقال سيبويهِ‏:‏ ‏"‏أما الفعل فأمثلةٌ أُخِذت من لفظ أحْداثِ الأسماء وبُنيت لما مضى، وَمَا يكون وَلَمْ يقع، وَمَا هو كائن لَمْ ينقطع‏"‏ فيقال لسيبويه‏:‏ ذكرتَ هَذَا فِي أوَّل كتابك وزعمتَ بعدُ أنّ ‏"‏لَيْسَ‏"‏ و ‏"‏عَسَى‏"‏ و ‏"‏نِعْمَ‏"‏ و ‏"‏بِئْسَ‏"‏ أفعال، ومعلومٌ أنها لَمْ تُؤْخذ من مصادر‏.‏ فإن قلت‏:‏ إني حَدَدْتُ أكثر الفعل وتركت أقلَّه قيل لَكَ‏:‏ إن الحد عند النُّظَّار مَا لَمْ يَزِد المحدود وَلَمْ يَنْقُصْهً مَا هو لَهُ‏.‏

وقال قوم ‏"‏الفعل مَا امتنع من التثنية والجمع‏"‏‏.‏ والرَّدُّ عَلَى أصحاب هَذِهِ المقالة أن يقال‏:‏ إن الحروف كلها ممتنعة من التثنية والجمع وليست أفعالًا‏.‏

وقال قوم‏:‏ ‏"‏الفعل مَا حَسُنَتْ فِيهِ التاء نحو قمتُ وذهبتُ‏"‏، وهذا عندنا غلط لأنا قَدْ نسميه فعلًا قبل دخول التاء عَلَيْهِ‏.‏

وقال قوم ‏"‏الفعل مَا حَسُنَ فِيهِ أمْسِ وغدًا‏"‏ وهذا عَلَى مذهب البصريين غيرُ مستقيم، لأنهم يقولون أنا قائم غدًا، كما يقولون أنا قائم أمسِ‏.‏

والذي نذهب إِلَيْهِ مَا حكيناه عن الكِسَائِيّ من أن ‏"‏الفعل مَا دلّ عَلَى زمان كخرج ويخرج‏"‏ دلَّنا بهما عَلَى ماضٍ ومستقبل‏.‏

باب الحرف

قال سِيبَوَيْهِ‏:‏ وأما مَا جاء لمعنى، وَلَيْسَ باسم ولا فعل، فنحو‏:‏ ‏"‏ثُمَّ‏"‏ و ‏"‏سَوْفَ‏"‏ و ‏"‏واو القسم‏"‏ و ‏"‏لام الإضافة‏"‏‏.‏

وكان الأخْفَشُ يقول‏:‏ مَا لَمْ يحسُنْ لَهُ الفعل ولا الصفة ولا التثنية ولا الجمع وَلَمْ يَجُزْ أن يَتَصَرَّف - فهو حرف‏.‏

وقد أكثر أهلُ العربية فِي هَذَا، وأقربُ مَا فِيهِ مَا قاله سيبويهِ، إنه الَّذِي يفيد معنىً لَيْسَ فِي اسم ولا فعل‏.‏ نحو قولنا ‏"‏زيدٌ منطلقٌ‏"‏ ثُمَّ نقول ‏"‏هل زيدٌ منطلق‏؟‏‏"‏ فافدْنا ب ‏"‏هل‏"‏ مَا لَمْ يكن فِي ‏"‏زيد‏"‏ ولا ‏"‏منطلق‏"‏‏.‏

باب أجناس الأسماء

قال بعض أهل العلم‏:‏ الأسماء خمسة - اسم فارقٌ واسم مُفارِقٌ واسم مُشْتَقٌّ واسم مضاف واسم مُقْتَضٍ‏"‏‏.‏

فالفارق‏:‏ قولنا ‏"‏رجل‏"‏ و ‏"‏فرس‏"‏، فرقنا بالاسمين بَيْنَ شخصين‏.‏

والمفارق‏:‏ قولنا ‏"‏طفل‏"‏، يفارقه إذَا كَبشر‏"‏‏.‏

والمشتق‏:‏ قولنا ‏"‏كاتب‏"‏ وهو مشتق من ‏"‏الكتابة‏"‏ ويكون هَذَا عَلَى وجهين‏:‏ أحدهما مَبْنِيًَّا عَلَى فَعَلَ وذلك قولنا ‏"‏كتب فهو كاتب‏"‏، والآخر يكون مشتقًا من الفعل غيرَ مبنيٍّ عَلَيْهِ كقولنا ‏"‏الرحمن‏"‏ فهذا مشتق من ‏"‏الرحمة‏"‏ وغير مبني من ‏"‏رحم‏"‏‏.‏

وكلّ مَا كَانَ من الأوصاف أبعدَ من بنية الفعل فهو أبلغُ، لأن ‏"‏الرحمن‏"‏ أبلغُ من ‏"‏الرحيم‏"‏ لأنا نقول ‏"‏رَحِمَ فهو راحم ورحيم‏"‏ ونقول ‏"‏قَدَر فهو قادرٌ وقَدير‏"‏ وإذا قلنا ‏"‏الرحمن‏"‏ فليس هو من ‏"‏رَحِمَ‏"‏ وإنَّما هو من الرَّحمة‏"‏‏.‏ وَعَلَى هَذَا تجري النعوت كلُّها فِي قولنا ‏"‏كاتب‏"‏ و ‏"‏كَتَّاب‏"‏ و ‏"‏ضارب‏"‏ و ‏"‏ضَرُوب‏"‏‏.‏

والمضاف‏:‏ قولنا ‏"‏كلّ‏"‏ و ‏"‏بعض‏"‏ لا بدَّ أن يكونا مضافَين‏.‏

والمُقْتضي‏:‏ قولنا ‏"‏أَخ‏"‏ و ‏"‏شَريك‏"‏ و ‏"‏ابن‏"‏ و ‏"‏خَصْم‏"‏ كلُّ واحد منها إذَا ذُكر اقتضى غيرَهُ، لأن الشريك مُقْتضٍ شريكًا والأخ مقتض آخر‏.‏

وقال بعض الفقهاء‏:‏ أسماءُ الأعيان خمسة‏:‏ اسم لازمٌ واسم مُفارقٌ واسم مُشْتَقٌّ واسم مضاف واسم مُشَبِهٌ‏.‏

فاللازم‏:‏ ‏"‏إنسان‏"‏ و ‏"‏سماء‏"‏ و ‏"‏أرض‏"‏ لأن هَذِهِ الأسماء لا تنتقلُ من مُسَميَّاتها‏.‏

قال‏:‏ والمُفارِق‏:‏ اللقب الَّذِي يُسمى نحو‏:‏ ‏"‏زيد‏"‏ و ‏"‏عمرو‏"‏‏.‏ وَقَدْ يقع أيضًا بأنْ يقال‏:‏ المفارق ‏"‏الطفل‏"‏ لأنه اسم يزول عنه بِكبَره‏.‏

والمشتق‏:‏ ك ‏"‏دابَّة‏"‏ و ‏"‏كاتب‏"‏‏.‏

والمضاف‏:‏ قولنا ‏"‏ثوبُ عمرو‏"‏ و ‏"‏جزءُ الشيءِ‏"‏‏.‏

والمشبَّه‏:‏ قولنا ‏"‏رَجُلٌ حَديدٌ وأسَدٌ‏"‏ عَلَى وجه التشبيه‏.‏

قال‏:‏ وجِماعُها أنها وُضِعت للدَّلالة بِهَا‏.‏

قلنا‏:‏ وهذه قسمة ليست بالبعيدة‏.‏

باب النعت

النَّعْتُ‏:‏ هو الوصف كقولنا‏:‏ ‏"‏هو عاقل‏"‏ و ‏"‏جاهل‏"‏‏.‏

وذُكر عن الخليل أن النعت لا يكون إِلاَّ فِي محمود، وأن الوصف قَدْ يكون فِيهِ وَفِي غيره‏.‏

والنَّعتُ‏:‏ يجري مَجرَيَيْن‏:‏ أحدهما تخليص اسم من اسم كقولنا ‏"‏زيد العطَّار‏"‏ و ‏"‏زيد التَّمِيميّ‏"‏ خلصناه بنعته من الَّذِي شاركه فِي اسمه‏.‏ والآخر عَلَى معنى المدح والذم نحو‏:‏ ‏"‏العاقل‏"‏ و ‏"‏الجاهل‏"‏‏.‏

وَعَلَى هَذَا الوجه تجري أسماء الله جلَّ وعزَّ، لأنه المحمود المشكور المثنَّى عَلَيْهِ بكلّ لسان، ولا سَمِيَّ لَهُ جلّ اسمُهُ - فيخلُصُ اسمه من غيره‏.‏

باب القول عَلَى الاسم من أي شيء أُخذ

قال قوم‏:‏ الأسماء سِماتٌ دالَّة عَلَى المُسَميَّات، ليُعرَف بِهَا خطاب المخاطب‏.‏

وهذا الكلام محتمِل وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون الاسم سِمَة كالعلامة والسِّيماء‏.‏ والآخر أن يقال‏:‏ إنه مشتق من ‏"‏السِّمَة‏"‏‏.‏ فإن أراد القائل أنها سِمات عَلَى الوجه الأول فصحيح - وإن كَانَ أراد الوجه الثاني - فحدثني أبو محمد سَلْم بن الحسن البغدادي قال‏:‏ سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن السّري الزَّجَّاج يقول‏:‏ معنى قولنا ‏"‏اسمٌ‏"‏ مشتق من ‏"‏السموّ‏"‏ والسموّ الرفعة‏.‏ فالأصل فِيهِ ‏"‏سِمْوٌ‏"‏ عَلَى وزن حِمْل وجمعه ‏"‏أسماء‏"‏ مثل قولك قِنو وأقناء‏.‏ وإنما جعل الاسم تنويهًا ودَلالة عَلَى المعنى لأن المعنى تَحْتَ الاسم‏.‏ ومن قال‏:‏ إن اسمًا مأخوذ من ‏"‏وَسَمْتُ‏"‏ فهو غلط؛ لأنه لَوْ كَانَ كذا لكان تصغيره ‏"‏وُسَيْمٌ‏"‏ كما أن تصغير عِدَّة وصِلَة‏:‏ وُعَيْدَة ووُصَيْلَة‏.‏

قال أبو إسحاق‏:‏ وَمَا قلناه فِي اشتقاق ‏"‏اسم‏"‏ ومعناه - قول لا نعلم أحدًا فسَّرَه قبلنا‏.‏

قلت‏:‏ وأبو إسحاق ثقة‏.‏ غير أني سمعت أبا الحسين أحمد بن عليّ الأحول يقول سمعت أبا الحسين عبد الله بن سفيان النحوي الخزاز يقول‏:‏ سمعت أبا العباس محمد بن يزيد المبرّد يقول‏:‏ الاسم مُشتق من ‏"‏سما‏"‏ إذَا علا‏.‏

قال‏:‏ وَكَانَ أبو العباس رُبما اختصني بكثير من علمه فلا يُشركني فِيهِ غيري‏.‏